ومعذرة لقيمة طه حسين حين أطلت فى خيالى مقارنة بينه وبين كمال الدين حسين.
كلما اقترب ديسمبر من نهايته ليعلن ميلاد عام جديد؛ تنفجر فى الذاكرة حوارات قديمة عما تتركه الأحداث من دروس ، فلا ندم على ما جرى ولكن وضعه تحت ميكروسكوب يضيء بشفافية ليستخلص خبرة لعام جديد.
وغالبا ما تطل صور أحباء القلب فى ضوء التذكار، فهاهو صلاح عبد الصبور الشاعر الشاسع العطاء يطل ، فأراه فى مكتب منصور حسن وزير الدولة لرئاسة الجمهورية وهو يتحدث إلى ثلاثة من كبار رجال الأمن ، أراد واحد منهم أن يتم تقديم أسماء معارضى السادات للبرلمان لإسقاط الجنسية عنهم ، فقال صلاح عبدالصبور «السادات قبضة من تراب هذا الوطن ؛ ومحمود السعدنى _ الكاتب الساخر – قبضة اخرى من نفس التراب ، فإن أسقطنا الجنسية عن السعدنى ماذا سيقول عنها من يكتبون تاريخ الوطن». وتطل صورة أخرى لمعلم أدار حياته وحياة تلاميذه بضوء يفتح الرؤية أمامهم وهو واحد من احب اساتذتى لقلبى ، الراحل الجليل د, سعد جلال العالم النفسى الذى كشف بتاريخ حياته الفارق بين إدارة الدكتور طه حسين لأمر التعليم وبين إدارة نصف الإخوانى ونصف الثائر كمال الدين حسين وزير التعليم فى سنوات ثورة يوليو الأولى فوضع بذور العجز عن التعلم والغرق فى «النفاق الثوري» الذى أورث بلدنا مسلسل الابتعاد عما أسسه طه حسين من روح العلم بدءا من الشك والتساؤل وإثبات جديد وإزاحة هالة القداسة المزيفة عن القديم ومحاولة تنقيته من قمة الجهل التى يعلوها هذا القديم ، لنضعه تحت ميكروسكوب الشك والنقاش واستخلاص العبرة كضوء نرى به ما امامنا فقد كان أخشى ما يخشاه العقل الذى ادار التعليم عبر عشر سنوات بعد ثورة يوليو هو التفكير الناقد.
ومعذرة لقيمة طه حسين حين أطلت فى خيالى مقارنة بينه وبين كمال الدين حسين ، فيكفى أن أتذكر ما رواه لى أستاذى سعد جلال عالم النفس عن اللقاء الوحيد الذى جمعه مع طه حسين ، فحين حاز ليسانس الآداب بقسم التاريخ بامتياز مصحوب بمرتبة الشرف ؛جاء دور ابتعاثه لاستكمال الماجستير والدكتوراه؛ ناداه د. طه حسين ليناقش معه كيف يمكن أن تتسع رؤيته فلا يدرس التاريخ كعلم سبقه إليه كثيرون ، ولكن أن يدرس كيف يجعل أجيالا شابة تغوص فى أعماق نفوسها وتدرس كيفية اكتشاف مواهبها عن طرق دراسة علم النفس وهو العلم الذى كان حديث الولادة وتقدمت فيه جامعة ستانفورد بشكل أخاذ . واقتنع سعد جلال ليسافر إلى الولايات المتحدة ويتفوق بشكل أثار إعجاب إدارة الجامعة التى عرضت عليه الجنسية وتأسيس كرسى دراسى للدراسات الميدانية التى تؤهل الشباب كى يكونوا معلمين متميزين، فاعتذر سعد جلال بوضوح قائلا: «صرف فقراء المصريين على تعليمى كى أعود لأعلم أبناءهم كمعلمين متميزين ´. وعاد ليدرس فى معهد إعداد المعلمين وهو المعهد الذى كان يلتحق به من يتجه إلى مهنة التدريس . ولكن شاء حظ التعليم العثر أن يزور كمال الدين حسين عضو مجلس الثورة ووزير التعليم هذا المعهد العالي، وفتح _ دون استذان _ باب المحاضرة على د. سعد جلال وهو ينقاش تلاميذه ، فقال سعد جلال: «أدب الدخول إلى قاعات التدريس يقتضى أن تدق الباب أولا حتى يأذن لك المحاضر» . ورضخ كمال الدين حسين مؤقتا فخرج وأغلق الباب ثم نقر عليه بأصابعه فسمح له سعد جلال بالدخول ، وما إن استمع إلى بعض مما يقوله سعد جلال حتى قال « علم النفس هذا أسسه يهودى وأراد أن يضر الإسلام والمسلمين ، ثم أصدر فور خروجه قرارا بإلغاء هذا المعهد من الوجود . وتم نقل سعد جلال إلى محاضر بالقطعة فى آداب الإسكندرية إلى أن أسس وحدة البحوث النفسية بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية .
كثيرا ما سألت د. سعد جلال : ألم تندم على عدم البقاء فى الولايات المتحدة وألم تندم على تعليمك لكمال الدين حسين أدب دخول قاعات الدرس ؟ . وكان يضحك قائلا : لو بقيت فى الولايات المتحدة لم أكن سأشارك فى صياغة قدرة فنون السؤال عند من أقوم بالتدريس لهم أو تدريبهم على إجراء البحوث من شباب الباحثين، فمن أهم ما يعلمه استاذ لتلاميذه هو فن التساؤل وفن الوصول إلى إجابات لتساؤلاته ، ليبحث من يتعلمون عن إجابات جديدة ، فالعلم كالحياة سؤال يبحث عن إجابة وإجابة تلد سؤالا ، المهم هو اختيار المنهج الملائم الذى لا يلقيك فى التيه . وكان جهدي_ والكلام مازال باقيا فى ذاكرتى من قول سعد جلال _ العلمى سيذهب مضافا للولايات المتحدة ، ولن تصل أى فائدة للقروى المصرى الذى تعلمت أنا من بعض جهده ودفع ضرائبه. أما عن تلقين كمال الدين حسين لأدب دخول قاعات الدرس ، فقد كان ابن رغبة للقول لأى مسئول «إن منصبك لا يمنحك الحق فى أن تعتبر الرضوخ أمرا حتميا فيتيح لك اقتحام حياة الآخرين بغير أدب». وأنهى قوله لي: « لم أندم على ذلك ؛ خصوصا أن السماء كتبت لى التوفيق فى تريبة ابنائى الثلاثة الذين تفوقوا دراسيا وفتحت لهم الدراسات العليا أبوابها ليكونوا أساتذة بالجامعات . ويطل وجه عضو الضباط الأحرار الذى أدار المسرح القومى فى صحوته بالستينيات وهو أحمد حمروش وهو من رأس تحرير مجلة روز اليوسف لسنوات ، وشاء حظه أن يركب طائرة تقله إلى باكستان فى إحدى جولاته كعضو بارز فى منظمة التضامن الآسيوى الإفريقي، وجاء مقعده بجانب شخص لمع اسمه فيما بعد كقاتل محترف ، وهو أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة . ودار نقاش بين الاثنين ، موجزه قناعة ابن لادن بأن السماء سخرت المخابرات الأمريكية لخدمة الإسلام ومقاومة الشيوعية ، وحاول أحمد حمروش أن يوضح لابن لادن ان المخابرات الأمريكية تستخدم شباب المسلمين توفيرا لدماء شبابها ؛ وهم مجرد وقود للأسلحة الجديدة التى يجرى التدريب عليها ، ثم هى تغتال من تجندهم بعد استنفاد أغراضها منهم . فقال ابن لادن: « هنا سنصبح شهداء « . وتمر بعدها قرابة عشرين عاما ليتم اغتيال ابن لادن ويلقى جثمانه طعاما لاسماك المحيط.
وهاهو عبد الحليم حافظ يطل من الذاكرة وهو راقد على سرير مستشفى جامعة اوكسفورد، ليحكى عن هربه من الملجأ ذات ظهر يوم خميس ليخلع ملابسه ويسبح مع شحاتة ابن خاله فى الترعة ، ثم تظهر عليهما اعراض البلهارسيا ، فيستسلم كلاهما للحقن بإبر تثير المعدة ، فتذهب البلهارسيا من ابن خاله شحاتة ولكنها تستقر فى جسد عبد الحليم لتسبب له دوالى المريء التى تقود بعد عشرين عاما إلى مسلسل مرض يلد مرضا آخر ، صحيح ان موهبته كانت قارب ارتقاء نادراً فى نهر الوجدان المصرى العربى كمطرب لا نظير له؛ وصحيح أيضا أن البلهارسيا تسببت مع دوالى المريء فى التهاب بالكبد ، قال عبد الحليم: « خطأ صغير هو السباحة فى الترعة تحول مع الوقت إلى سجن يربطنى فى السرير معظم أوقات العام» .
ترى من منا يمكن أن ينتبه لأخطائه الصغيرة قبل أن توقف نضج فهمه لقيمة الحياة بغير آثار تلك الخطايا على المستقبل ؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة