وفي يقيننا أن هذا كله، إنما يشكل جانباً أساسياً من جوانب ذلك الاصطدام الحضاري.
يصعب أن نجد في الأزمان الحديثة عاماً كعام 2016، الذي يلفظ أنفاسه هذه الأيام، عرف، وبشكل كئيب على أي حال، كيف ينصر كتاباً على كتاب آخر، في النهاية، ولو المؤقتة لـ «صراع» يدور بين الكتابين منذ ما يزيد على ربع القرن.
هذا الصراع كان قد بدأ أصلاً بمقال نُشر في عام 1989، في واحدة من المجلات الفكرية الأكثر محافظة في الولايات المتحدة «ذى ناشونال إنترست»، بقلم المستشار في وزارة الدفاع، فرانسيس فوكوياما.
في المقال الذي سيطوّره مؤلفه لاحقاً على شكل ذلك الكتاب الذي سيقيم دنيا المثقفين ولا يقعدها، وتحت عنوان «نهاية التاريخ»، هلل الكاتب لذلك الانتصار الأخير الذي حققته، في رأيه، الليبرالية العقلانية على الإيديولوجيات الشمولية، ومنها خاصة «الشيوعية» بانهيار المعسكر الاشتراكي.
بشّر فوكوياما يومها، مستنداً إلى فكر عقلنة التاريخ لدى هيغل، بأن ما من صراعات كبرى ستنشب في العالم بعد اليوم، طالما أن ما سيسيّر شؤون الكوكب مذاك وصاعداً، إنما هو الثنائي الديمقراطية/السوق، حتى ولو ظلت هناك صراعات جانبية، اعتبرها المفكر الياباني الأصل عابرة أو شديدة المحلية. وفي طريقه يومذاك، رأى فوكوياما أن الأصوليات، ولا سيما منها الإسلامية، ستكون محصورة في مناطق معينة، بحيث لن تنتج صراعات حقيقية.
طبعاً، لاحقاً، حين قامت اعتداءات نيويورك الإرهابية، اعتذر فوكوياما بعض الشيء، معتبراً أنه قلل من شأن «خطر الأصولية»، لكنه مع ذلك بقي على مبادئه الأساسية.
لقد صدر كتاب فوكوياما المستند إلى مقاله، في عام 1992، ممجداً ذلك الانتصار «الحاسم» و«الكبير» الذي حققته الديمقراطية الليبرالية. ونام الرجل على حرير ثقته بنفسه وأفكاره، غير مبالٍ تماماً بالانتقادات التي جابهه بها مثقفون في شتى أنحاء العالم، آخذين عليه، من ناحية، كونه لم يفهم هيغل كما يجب، ومن ناحية ثانية، كونه غير قادر على التمعن بدقة في أحداث التاريخ وإرهاصات الزمن المقبل.
بعد ذلك بعام، على أيّ حال، جاء الرد الأقسى على أطروحات فوكوياما، تحديداً من أستاذ له كان يدرّسه في جامعة هارفارد، وبالكاد كان أحد سمع باسمه خارج الحلقات الجامعية الضيقة. فلقد نشر صمويل هانتنغتون، بدوره، مقالاً، هذه المرة في دورية «فورين آفيرز»، الأكثر رصانة وشهرة، عنوانه «صراع الحضارات»، سرعان ما حوّله بعد ذلك إلى كتاب عنوانه «صدام الحضارات».
وكان من الواضح، في المقال، كما في الكتاب، أن هانتنغتون يرد على تلميذه القديم رداً حاسماً: فأبداً، بالنسبة إلى البروفسور الهارفردي، لم تحقق الديمقراطية الليبرالية ولا اقتصاد سوقها الناجح، ذلك الانتصار النهائي.
بل على العكس، بالنظر إلى أن نهاية عالم الاستقطابين الكبيرين، سوف يحوّل الحرب الباردة والتطلعات الهوياتية، والإخفاقات في هذه المنطقة أو تلك من العالم، إلى اصطدامات، ليس بين دول وأمم هذه المرة، ولا بين أحلاف، ولكن بين حضارات بأسرها.
ولئن كان هانتنغتون قد أخطأ في تحديد هوية الحضارتين اللتين ستكونان معنيتين بخوض الصراع في ما بينهما، معلناً اعتقاده بأنهما ستكونان الصينية والإسلامية، محدداً ميدان الصراع، بأنه سيكون في آسيا، كان من الواضح أنه لم يخطئ في التشخيص على الأقل.
فهو لم يتوقع نهاية للصراعات، بل بداية جديدة لها. أما معطياته الحدثية، فقد دلته على المكان الصحيح، ولو بشكل جزئي. وهذا ما أتت تباعاً جملة من الأحداث والكوارث الكبيرة لتؤكد عليه خلال السنوات التالية، حيث نعرف أن «الصراعات» الكبرى التي عرفها العالم منذ ذلك الحين، بدءا من حرب الخليج وصولا الى سقوط حلب تحت وقع النيران الروسية/الإيرانية المشتركة.
وبمشاركة أكسسوارية من النظام السوري، مروراً بأحداث نيويورك ومآسي الربيع العربي وغير ذلك، مما لم يعد من السهل حصره، كل هذه الصراعات، حتى ولو ارتدت ظاهرياً سمات المطالب المحلية أو العمل لرفع غبن ما، تنتمي إلى نوع غير معهود من الصراعات الحضارية، بعد أن أضيف إليها البروز المباغت لروسيا على الصعيد العالمي.
والمحاولات الإيرانية لملء الفراغ الذي يخلفه الغرب في مناطق عدة من الشرق الأوسط، أو الارتباك التركي الماثل أمام أعين العالم في تأرجح الأتراك بين تطلعات إمبراطورية مستعادة، ورغبات تحديثية تتقلص يوماً بعد يوم.
وفي يقيننا أن هذا كله، إنما يشكل جانباً أساسياً من جوانب ذلك الاصطدام الحضاري، الذي يشكل المادة الجوهرية في كتاب هانتنغتون، ويسهى كله عن بال تلميذه القديم، إلى أن أتى عام 2016، بكآباته وكوارثه وإرهابه «المجاني»، ليقول له، كم أنه كان على خطأ، وكم أن كتابه لا يستحق أكثر من الرصف في خزائن النسيان.
*نقلا عن البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة