تكتسب مشاركة الوفد الأفغاني، بقيادة حكومة تصريف الأعمال الحالية (حركة طالبان)، في منتدى الدوحة أهمية بالغة من منظور التحليل السياسي والدبلوماسي.
يعكس هذا الحضور سعي السلطة الحاكمة في كابول إلى تجاوز حالة العزلة الدبلوماسية المفروضة، والعمل على إعادة تشكيل حضورها الإقليمي والدولي.
يُعدّ المنتدى، الذي تستضيفه وتدعمه دولة قطر، منصة استراتيجية متعددة الأطراف تتيح تبادل الرؤى حول قضايا الأمن والسياسة والتنمية. بالتالي، مثَّلت المشاركة الأفغانية فرصة لإيصال رسائل مزدوجة: على الصعيد الداخلي، لترسيخ مفهوم الاستقرار النسبي وشرعية الأمر الواقع؛ وعلى الصعيد الخارجي، لتأكيد الاستعداد للانخراط والحوار مع المجتمع الدولي، لا سيما مع دول مجلس التعاون الخليجي التي تضطلع بدور محوري في المشهد الإقليمي.
تفسير الإشارات الدبلوماسية الضمنية
يحمل حضور كابول في هذه المنصة الإقليمية والدولية حزمة رسائل متعددة الدلالات:
للقوى الغربية والإقليمية: هو تأكيدٌ على أنَّ حكومة تصريف الأعمال تبسط سيطرتها الفعلية على كامل الأراضي الأفغانية، مع الإيحاء باستعدادٍ محتمل لفتح قنوات تعاون في الملفات الإنسانية والسياسية العالقة.
للمجتمع الدولي: يُظهر الحضور أنَّ الحوار ما يزال ممكنًا وأنَّ الباب مفتوح أمام فرص اقتصادية وتنموية واعدة، شرط الالتزام بمعايير الحوكمة وحقوق الإنسان.
لدول الجوار: هو تعزيز لموقع أفغانستان كشريك قادر على الإسهام في الاستقرار الإقليمي، والتفاوض حول القضايا الأمنية والاقتصادية، والسعي إلى بناء شبكة علاقات متوازنة تعكس رؤيتها لدور أكثر فاعلية في محيطها الاستراتيجي.
تأتي هذه المشاركة في خضم اهتمام إقليمي ودولي متصاعد بالشأن الأفغاني، يتجسد بشكل خاص في:
١- الدور الخليجي والمصالح الإقليمية المتنامية
تتبنى دول الخليج مقاربة ثنائية تجاه أفغانستان تجمع بين البعد الاقتصادي والدبلوماسي-الأمني، إدراكًا بأن استقرارها عنصر أساسي لأمن المنطقة وتنميتها، مع أدوار متمايزة لكل دولة في هذا الانخراط.
دولة قطر:
تضطلع قطر بدور الوسيط الإقليمي والدولي الرئيسي، حيث توفر، بصفتها راعيًا لمنتدى الدوحة، منصة حيوية لتسهيل الحوار وتعزيز الشراكات السياسية بين الأطراف المختلفة، بما في ذلك حكومة تصريف الأعمال في كابول والمجتمع الدولي. هذا الدور يرسخ قدرة قطر على لعب دور محوري في إدارة التوازنات الجيوسياسية المعقدة.
دولة الإمارات العربية المتحدة:
تُظهر الإمارات حضورًا عمليًا ملموسًا من خلال تبني نموذج الدبلوماسية الاقتصادية. يتم ذلك عبر مشاريع تطوير البنية التحتية والاستثمار المباشر، مما يعكس اهتمامًا حيويًا بتحفيز النمو الاقتصادي الأفغاني وإقامة شراكات اقتصادية مستدامة مع الحكومة والقطاع الخاص، واستغلال الفرص الاستثمارية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.
المملكة العربية السعودية ودولة الكويت:
يتركز انخراطهما على الدعم الإنساني والتنموي الموجّه أمنيًا. الهدف الاستراتيجي من هذا الدعم هو تعزيز الاستقرار الاجتماعي والأمني، ومنع تحول أفغانستان إلى مصدر للتهديدات الإرهابية العابرة للحدود. هذا التركيز يعكس رؤية خليجية شاملة تربط بين السلام والتنمية المستدامة.
يمثل الانخراط الخليجي تحالفًا استراتيجيًا غير تقليدي؛ حيث توفر قطر قناة الحوار، وتضمن السعودية والكويت الاستقرار الإنساني والأمني، بينما تعمل الإمارات على التمكين الاقتصادي. هذا التضافر يؤكد أنَّ دول المجلس تستخدم كل أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية لضمان الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية. إنَّ هذا الاهتمام الخليجي المتنامي يشير إلى إدراك عميق بأنَّ استقرار أفغانستان يمثل ركيزة أساسية للأمن الإقليمي واستدامة مشاريع التنمية الاقتصادية الخليجية، مما يمنح مشاركتها في المحافل الدولية بعدًا استراتيجيًا ملموسًا.
٢- آسيا الوسطى وجنوب آسيا
يشكّل استقرار أفغانستان نقطة مركزية لتقاطع مصالح إقليمية متعددة، تتسم أحيانًا بالتباين أو التضارب، مما يجعلها عاملًا أساسيًا في تشكيل التوازنات السياسية والاقتصادية الإقليمية.
تُعتبر أفغانستان لدول آسيا الوسطى عنصرًا محوريًا للأمن الإقليمي؛ حيث يتركز اهتمامها على تعزيز الأمن السيادي والحدودي من خلال تأمين الحدود ومنع أي تسلل غير مشروع للعناصر المسلحة، ومكافحة التهديدات العابرة للحدود بما يشمل الإرهاب والاتجار غير المشروع بالمخدرات، إضافة إلى تفعيل التعاون الاقتصادي الإقليمي عبر تطوير مشاريع النقل والطاقة العابرة للحدود بهدف ربط المنطقة بالأسواق العالمية، بما يدعم التكامل الاقتصادي والتنمية المستدامة في المنطقة.
دول جنوب آسيا وإيران:
تتنوع مصالح دول جنوب آسيا وإيران وفق أولويات كل دولة:
تركز الهند على تعزيز الروابط التجارية والاستثمارية من خلال دعم البنية التحتية، بما يسهم في تعزيز نفوذها الاستراتيجي والتنمية الإقليمية.
تولي إيران أهمية كبيرة للحفاظ على الأمن الحدودي ومراقبة تدفقات الهجرة واللجوء، إلى جانب تعزيز نفوذها السياسي والثقافي ودعم حركة التبادل التجاري، التي تشكل شريانًا اقتصاديًا حيويًا للمنطقة.
الأهمية الجيوسياسية ومحدودية الانخراط الأمريكي
بالرغم من الخطاب الذي يوحي بتراجع الاهتمام الأمريكي، يظل الموقع الجيوسياسي لأفغانستان بين باكستان والهند وآسيا الوسطى وإيران عاملًا يحافظ على حضورها في الحسابات الاستراتيجية لواشنطن. ومع ذلك، يظل الانخراط الأمريكي محدودًا وحذرًا، مقتصرًا على قنوات تواصل غير مكتملة ودعم انتقائي عبر شركاء إقليميين، في إطار مقاربة تحافظ على أهمية أفغانستان.
ما تزال أفغانستان حاضرة في حسابات السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن ضمن إطار أولوية مرنة وموزعة، تُدار بدقة وتأنٍّ بما يتوافق مع استراتيجية واشنطن الأوسع تجاه التوازنات الإقليمية والأمنية، مع التركيز على الانخراط الانتقائي في ملفات محددة مثل الشؤون الإنسانية ومكافحة الإرهاب.
خاتمة
تؤكد مشاركة أفغانستان في منتدى الدوحة أنَّ البلاد تقف على عتبة فرصة نادرة لكسر العزلة وإعادة التموضع إقليميًا ودوليًا، لكنها فرصة لا تتحول إلى مكسب إلا إذا اقترنت بإصلاح داخلي جاد وانفتاح دبلوماسي مسؤول. إنَّ قدرة كابول ودول الخليج والشركاء الدوليين على تحويل الحضور الرمزي إلى مشاريع تنموية واقتصادية واقعية هي التي ستحدد ما إذا كان المنتدى مجرد محطة سياسية عابرة أم بداية مسار فعلي لعودة أفغانستان إلى الخارطة الإقليمية كلاعب قادر لا متلقٍّ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة