مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في أغسطس/آب 2021، بدا المشهد الإقليمي مهيأً لإعادة توزيع النفوذ في واحدة من أكثر ساحات آسيا الوسطى حساسية.
وبينما انشغل اللاعبون الكبار بمحاولة ملء الفراغ، تقدمت دول خليجية، أبرزها الإمارات والسعودية وقطر، بخطوات محسوبة، لتعيد صياغة أدوارها في أفغانستان.
هذا التحول كشف عن مرحلة جديدة من العلاقات، انتقلت من التنافس إلى تشكيل إطار تعاوني يجمع أدوات دبلوماسية واقتصادية وإنسانية.
الاقتصاد أداة ناعمة
برزت دولة الإمارات بعد الانسحاب الأمريكي كقوة ناعمة تمتلك أدوات اقتصادية واستراتيجية. أحد أبرز مظاهرها تجسّد في توقيع اتفاقية لتشغيل مطارات كابول وهرات وقندهار مع شركة GAAC Solutions الإماراتية.
ويتوسع الدور الإماراتي ليشمل قطاعات حيوية أخرى:
القطاع الصحي: من خلال إدارة مستشفيات رئيسية في كابول عبر شركة BRS Ventures، ومشاريع مراكز الأمومة، مما يعزز حضور الإمارات الاجتماعي والإنساني.
الطاقة المتجددة: أعلنت شركة PAL 4 Solar Energy عن خطتها لإنشاء مشروع ضخم للطاقة الشمسية بقدرة 3000 ميجاوات، بهدف تلبية جزء كبير من احتياجات البلاد من الكهرباء.
الاتصالات: تعد شركة اتصالات من أبرز المستثمرين في هذا القطاع الحيوي منذ عام 2006.
وتسعى الإمارات عبر هذه الاستثمارات إلى أن تكون صاحبة "السبق الاقتصادي"، وأن تقدم نفسها كقوة توازن بين الاعتراف السياسي والتفاعل العملي.
دبلوماسية الوساطة والإجلاء
تلعب دولة قطر دورًا فاعلًا ومتنوعًا في الشأن الأفغاني، يجمع بين البعد الدبلوماسي، والاقتصادي، والإنساني. فمنذ افتتاح مكتب طالبان في الدوحة عام 2013، أصبحت قطر وسيطًا محوريًا في جهود السلام، حيث رعت اتفاق الولايات المتحدة-طالبان عام 2020، واستمرت في استضافة جولات "عملية الدوحة" التي جمعت طالبان والأمم المتحدة ودولًا إقليمية. كما عبرت الدوحة عن دعمها لحقوق الإنسان، خصوصًا التعليم وحقوق المرأة، في المحافل الدولية.
اقتصاديًا، طُرحت فرص للاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية، وتم الاتفاق على استقدام آلاف العمال الأفغان المهنيين إلى السوق القطرية، مما يساهم في تخفيف البطالة.
إنسانيًا، برزت قطر كأحد أكبر المانحين، عبر صندوق قطر للتنمية ومؤسساتها الخيرية، حيث دعمت مشاريع في الصحة، والتعليم، والغذاء، مع تركيز خاص على تمكين النساء والأيتام.
تمثل قطر نموذجًا لدور الوسيط النشط والداعم، مستندة إلى دبلوماسية هادئة وشراكات مرنة، ما يجعلها شريكًا مؤثرًا في رسم ملامح مستقبل أفغانستان.
الاحتواء الناعم والدبلوماسية المباشرة
تتبع المملكة العربية السعودية نهجًا استراتيجيًا يجمع بين "الاحتواء الناعم" والدبلوماسية المباشرة. فبالإضافة إلى تقديمها الدعم عبر المؤسسات الإسلامية مثل منظمة التعاون الإسلامي (OIC) والبنك الإسلامي للتنمية (IsDB)، اتخذت الرياض خطوة مهمة بفتح سفارتها في كابول.
هذه الخطوة تمثل تحولًا استراتيجيًا من المراقبة عن كثب إلى التفاعل المباشر، ما يمنحها قناة اتصال رسمية ووجودًا دبلوماسيًا على الأرض.
تسعى المملكة إلى تعزيز "قوتها الناعمة" عبر الجسور الدينية والثقافية، وفي الوقت نفسه، تضمن وجودها المباشر في العاصمة الأفغانية لمتابعة التطورات.
قوة إضافية
وتمنح التحالفات الاستراتيجية والشراكات القوية بين الدول الثلاث مع الولايات المتحدة، ثقلاً إضافيًا، وتجعلها أكثر فعالية في التأثير على المشهد الأفغاني والإقليمي.
فبينما تعمل واشنطن على استراتيجية لاحتواء الفوضى ومواجهة التحديات الأمنية دون وجود عسكري مباشر، تجد في دول الخليج شركاء يمكنهم تنفيذ أدوار حيوية على الأرض، سواء عبر الدبلوماسية، أو الاقتصاد، أو المساعدات الإنسانية.
هذا التعاون يمنح هذه الدول الخليجية قوة ونفوذًا لا يملكه أي لاعب إقليمي آخر.
خاتمة
يُظهر التحول في استراتيجيات دول الخليج تجاه أفغانستان إدراكًا عميقًا لمتغيرات المشهد الدولي، حيث لم يعد التنافس التقليدي مجديًا. إن تشكيل جبهة خليجية موحدة، يمثل خطوة حاسمة نحو بناء نفوذ إقليمي جماعي. فبينما تقدم قطر الدبلوماسية، وتوفر الإمارات الروافد الاقتصادية، وتدعم السعودية بعد الدبلوماسية الدينية، تتكامل هذه الأدوار لتشكل قوة تأثير متماسكة.
هذا النموذج من التعاون لا يضمن فقط تحقيق مصالح هذه الدول، بل يساهم أيضًا في تعزيز الاستقرار في أفغانستان والمنطقة برمتها، ويقدم نموذجًا جديدًا لدبلوماسية إقليمية أكثر مرونة وواقعية في التعامل مع التحديات المعقدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة