تميّز القضاء الجنائي الدولي ما قبل إحداث المحكمة الجنائية الدولية بالانتقائية من جهة أولى؛ نظراً لاقتصاره على حالات بعينها
تميّز القضاء الجنائي الدولي ما قبل إحداث المحكمة الجنائية الدولية بالانتقائية من جهة أولى؛ نظراً لاقتصاره على حالات بعينها، بعدما ظلّ الكثير من الضالعين في ارتكاب مآس إنسانية خطرة دون متابعة قضائية وطنية أو دولية.. وهو ما تشير إليه مختلف الجرائم المرتكبة في كل من فلسطين وأفغانستان والعراق.. كما تميز أيضاً (القضاء الجنائي الدولي) بخضوعه لإرادة القوى الدولية الكبرى من جهة ثانية، بعدما ظلت أحكامه مرهونة بالإرادة السياسية لهذه القوى ولتقلّب مصالحها؛ بالشكل الذي جعله يجسّد في كثير من الحالات عدالة القويّ والمنتصر.
شكّل التذرع بقدسية سيادة الدول ومبدأ عدم التدخل عاملاً حاسماً في تأجيل وتعطيل إنشاء محكمة جنائية دائمة رغم ضرورة وجودها منذ عدة عقود، غير أن تزايد الحروب والنزاعات الداخلية والدولية؛ وما خلفته من جرائم إنسانية خطرة في مناطق مختلفة من العالم (رواندا، والصومال، ويوغوسلافيا السابقة...) وما ترتب عن ذلك من تنكر صارخ لحقوق الإنسان..؛ أسهم في تبلور إرادة دولية جدّية باتجاه تأسيس المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي جاءت نتاج جهود دولية قادتها دول ومنظمات غير حكومية عديدة.
تحظى المحكمة بنوع من الاستقلالية على مستوى التمويل والموظفين؛ وهي تقوم على مجموعة من المبادئ التي يمكن إجمالها في كونها «تمثل قضاء دولياً ترتكز ولايته أساساً على إرادة الدول الموقعة منها والمنشئة للمحكمة» ويعد اختصاصها مكملاً للقضاء الداخلي وليس بديلاً عنه؛ وهو يقتصر على جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري؛ والعدوان.. فيما تظل المسؤولية المعاقب عليها مسؤولية شخصية..
بلغ عدد الدول المصادقة على نظام روما 124 دولة حتى الآن؛ موزعة كما يلي: 34 دولة إفريقية و19 دولة من آسيا والباسيفيك؛ و18 دولة من أوروبا الغربية و28 دولة من أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي 25 دولة من أوروبا الشرقية ومناطق أخرى من العالم.. بينها أربع دول منتمية إلى جامعة الدول العربية هي الأردن؛ وجيبوتي؛ وجزر القمر؛ وتونس..
خلّف إحداث المحكمة انطباعاً جيّداً بإمكانية إرساء عدالة جنائية دولية تدعم ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب؛ على طريق ردع الجرائم الخطرة ضد الإنسانية في مختلف مناطق العالم، غير أن ذلك لم يدم طويلاً مع توالي الإشكالات والصعوبات التي واجهت المحكمة.. وتردّد الكثير من الدول في المصادقة على نظام المحكمة بذريعة حماية سيادتها من أي تدخل خارجي..
ضمن سابقة دولية؛ أعلنت جنوب إفريقيا أخيراً؛ قراراً يقضي بالانسحاب من نظام المحكمة، في أعقاب النقاش الذي أثاره عدم امتثالها لطلب المحكمة القاضي بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير خلال حضوره لمؤتمر للاتحاد الإفريقي بجوهانسبورغ في عام 2015.
وقد بررت السلطات الجنوب إفريقية هذا التوجه بكونه جاء نتيجة سعي المحكمة إلى الحدّ من قدرة البلاد على توفير الحصانة الدبلوماسية لضيوفها من رؤساء الدول.. وعدم انسجام تفسيرات المحكمة مع واجباتها (جنوب إفريقيا) فيما يتعلق بالتسوية السلمية للنزاعات..
أثار هذا القرار نقاشات فكرية وحقوقية؛ تنوعت بين نقد توجه جنوب إفريقيا التي عانت ويلات النزاعات والجرائم الخطرة.. واعتبار ذلك مجرد تهرب من المسؤولية وتنكر للعدالة ولتاريخها المعروف بإنصاف ضحايا الانتهاكات الخطرة.. وبين من اعتبر الأمر يعكس أزمة مصداقية تمرّ بها المحكمة التي لم تؤسس بعد لعدالة جنائية صارمة تقطع مع كل مظاهر الإفلات من العقاب في كل مناطق العالم.. وبخاصة مع وجود حالات عديدة من الجرائم المرتكبة في العراق وفلسطين المحتلة.. وغيرهما دون محاسبة..
جاءت هذه الخطوة المفاجئة في أعقاب تنامي استياء عدد من الدول الإفريقية من تركيز المحكمة على الجرائم المرتكبة بالقارة؛ واستهدافها كأنها المعنية الرئيسية بهذا الموضوع؛ وهو ما حدا بكينيا إلى التقدم بمقترح يدعو لانسحاب جماعي للدول الإفريقية من نظام المحكمة خلال القمة 26 للاتحاد الإفريقي المنعقدة بأديس أبابا، في بداية عام 2016.. فيما لم تخف دولة بورندي رغبتها في هذا الشأن أيضاً.
وجدير بالذكر أن من بين عشرة تحقيقات تباشرها المحكمة حالياً؛ هناك تسعة تنصبّ على قضايا تتصل بالقارة الإفريقية (أوغندا؛ وجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ وجمهورية إفريقيا الوسطى؛ والسودان ودارفور؛ وساحل العاج؛ وكينيا؛ ومالي؛ وليبيا). وبغض النظر عما إذا كانت هذه الدعاوى قد أثيرت من قبل الدول الأعضاء أو عبر مجلس الأمن بموجب الفقرة الثانية المادة 13 من النظام الأساسي للمحكمة.. فإنها تطرح أكثر من سؤال بصدد مصداقية هذه الهيئة ومدى سعيها الحقيقي نحو المساهمة في تعزيز السلم والأمن الدوليين.
إن تأسيس عدالة جنائية دولية صارمة؛ قادرة على إرساء مبدأ الإفلات من العقاب؛ يبدأ من تجاوز كل مظاهر تسييس هذه العدالة بتعزيز استقلالية المحكمة عن مجلس الأمن.. وإقبال القوى الدولية الكبرى أيضاً على المصادقة على نظام المحكمة الذي يظل اختصاصها تكميلياً في كل الأحوال..
* نقلاً عن " الخليج "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة