ليست هذه الأزمة جديدة على عالم السياسة المعاصرة. هناك دول كبيرة شهدت شكلاً من أشكال توقعات إعلامِها في معارك سياسية تبيّن أنها راهنت فيها على، أو روّجت، للأحصنة الخاسرة،
تمارس الصحافة الأميركية التقليدية، الصحف والتلفزيونات، والأكيد عدد كبير رئيسي منها، نوعاً من الجَلْدِ الذاتي بعد انتخاب دونالد ترامب. هل بالغنا بالتوقعات؟ الأهم: هل بالَغْنا بتجاهل البيئات الشعبية غير النخبوية؟ فجَعَلْنا النقاش العملي عبر الخبر والتقرير ومن ثم الرأي محصوراً بالنخب، مهما اتسعت داخل الطبقة الوسطى، وبهمومها؟
تكاد الصحافة الرئيسية الأميركية تسأل نفسها باختصار: هل كَذَبْنا؟
ليست هذه الأزمة جديدة على عالم السياسة المعاصرة. هناك دول كبيرة شهدت شكلاً من أشكال توقعات إعلامِها في معارك سياسية تبيّن أنها راهنت فيها على، أو روّجت، للأحصنة الخاسرة، دون أن ننسى مثلاً أن النقد الذي تتعرّض له شركات استطلاع الرأي التي باتت تقف في واجهة ما يبدو الآن في الولايات المتحدة أنه فضيحة كبيرة، وهي أيضا جزءٌ من أزمة، إنْ لم يكنْ الصحافة، فهي أزمة بعض مصادر الصحافة.
حصل ذلك في بريطانيا قبل أشهر مع تقليل أهمية "البريكسيت" فجاءت النتيجة المؤيدة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي صادمة ومفاجئة. وهناك أمثلة عديدة لأخطاء الاستطلاعات قديمة وجديدة.
في فرنسا منذ سنوات طويلة هناك نقد متواصل لدور الصحافة التلفزيونية في خلق وجوه ومناخات مفتعلة أو مبالَغٍ بها نوعاً وكماً... ولعالمِ الاجتماع الفرنسي بيار بورديو كتاب - كتيِّب شهير عام 1996 بعنوان "عن التلفزيون" يعتبر فيه التلفزيون "قوة ابتذال". ومن توصيفاته أن الصحافي بقدر ما هو محرِّك ومغيِّر وقائع هو أيضاً خاضع للتحريك بل التزوير نفسه. مرتكب ومادة ارتكاب معاً.
تأتي هذه الأزمة العميقة، في صحافة الولايات المتحدة، وهي من ضمن معضلات أميركا الترامبية "الجديدة"، في وقت تواجه الصحافة أزمتها الوجودية بفعل الثورة التكنولوجية التي غيرت وعدّلت مصادر المعلومات والتقييم. إذن يفاقم النقاش الجديد الذي سبّبته صدمة فوز ترامب، هَرَمَ ما يمكن أن يتحول إلى معضلة جدوى العمل الصحافي.
هذا النقاش لأنه حقيقي وليس فقط أميركياً بل هو عالمي التأثير، يحتاج إلى طرح بعض "الأسئلة المضادة":
هل من الخطأ أن تكون الصحافة المكتوبة نخبوية بالمعنى الواسع لكلمة نخبة؟ ومتى كانت الصحافة المكتوبة شعبية بالمعنى الدقيق للكلمة. دائماً لم تتجاوز أرقام توزيع الصحف الكبرى في العالم وفي العهود الذهبية بين الـ10 إلى 18 بالماية من السكان وأغلبها، أعني الشديدة الانتشار، بين 8 و12 بالماية؟
هل المشكلة في بنية القطاع الصحافي كأفراد أم في نمط العمل والدور؟
أليس النقد الذي يوجّه للصحافة ناتجاً عن إحدى أكبر ظواهر الثورة التكنولوجية وهي أن الصراع الفعلي ليس بين الصحافة ونفسها بل هو بين الصحافة القديمة و"الصحافة الجديدة" التي ربما لا يمكن تسميتها أصلاً بالصحافة؟ وهي وسائل التواصل الاجتماعي. لقد انتخب ترامب على "الفايسبوك" و"تويتر" و"البْلوغات" بينما لم يُنتَخب على التلفزيونات وبين أسطر الصحافة الورقية وامتدادها الديجيتالي؟
لو دقَّقْنا في الأسئلة والأسئلة المضادة لوجدنا أن توصيف المعضلة هو نفسه قبل الترامبية وبعدها، أي من هو القارئ؟ ناخباً كان أم مراقباً؟ لأنه يمكن النظر من زاوية مشتركة بين الهمّيْن الإعلامي والسياسي، وربما يمكن المجازفة بالقول بين علم الإعلام وعلم السياسة وعلم الاجتماع أن إعادة النظر النقدية بدور الصحافة تطال القارئ و بالتالي اللاقارئ بمستوياته المتعددة.
ربما من إيجابيات المرحلة الترامبية، وهي في العالم مرحلة صعود السياسات اليمينية الشعبوية، من بريطانيا إلى فرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا وتركيا (أردوغان) أنها تُعزِّز وستعزِّز الدور النقدي المواجه للسلطة مما سيشكل تعزيزاً للديموقراطية. أقول ذلك عن البلدان التي لن تتعرض فيها حريات الصحافة للقمع، وهذا إذا كان يحصل في دول العالم الثالث فلن يحصل في الغرب الأوروبي والأميركي.
لقد نجح دونالد ترامب في وسائل التواصل الاجتماعي حيث تمكن مؤيدوه، ولمْ نرَهُمْ، من كسر جدار الصحافة المكتوبة والتلفزيون. ولكن السؤال الذي من شأنه أن يوقف أو يخفِّف من الجَلْد الذاتي في الصحافة هو: ما المانع من أن تكون الصحافة منحازة بل ومتحيِّزة ضد مناخ سياسي تزداد فيه سيطرة العنصرية والكراهية والرأسمالية غير الملتزمة اجتماعياً والثقافة المبتذَلة والمبتذِلة؟
في لحظات معينة يجب أن لا يخجل الصحافي من انحيازه. وككل مهنة يجب أن نخجل فقط حين يعني الانحياز تقصيراً.
نقلا عن النهار
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة