فوز ترامب يدفعنا أيضاً إلى مراجعة ما هو مستقر من التفوق الأخلاقي الغربي وارتفاع الوعي العام الذي يجعل التصويت، وهو الركن الركين للعملية الديموقراطية.
صباح الأربعاء الماضي، وفيما أنباء فوز دونالد ترامب تصيب العالم بما يشبه الصدمة، كنت أقرأ في عشر صحف عربية على الأقل، عرضتها تباعاً، مقالات رأي تتحدث عن هيلاري كلينتون بوصفها رئيس الولايات المتحدة. وفيما حاول بعض الكتّاب والمحللين الظهور بمظهر المحترز، وتحدثوا عن الفوز «المُحتمل» أو «المُرجح» لكلينتون، أهمل آخرون حتى هذا الإجراء الشكلي، وتحدثوا عن فوز كلينتون باعتباره محسوماً. وللقارئ إذا أراد، أن يعود إلى النسخ الورقية أو الإلكترونية لهذه الصحف، ليكتشف بنفسه حجم التيقن والاطمئنان إلى نتيجة الانتخابات الأمريكية، والتأكيد على أن الفارق سيكون ضخماً لمصلحة وزيرة الخارجية السابقة ذات الخبرة والثقل السياسي والقبول العالمي ضد البليونير المندفع منفلت اللسان صاحب التوجهات الصادمة والتصريحات غير اللائقة والسلوك البعيد من الاعتدال والتهذيب.
لا أدعي الحكمة بأثر رجعي، غير أنني لم أطمئن يوماً إلى أن لهذه الانتخابات نتيجة يمكن توقعها. وكتبت في المكان نفسه بتاريخ 19 أيلول (سبتمبر) الماضي مقالة بعنوان «ابتزاز أمريكي جديد»، أكدت في بدايتها وجود «مأزق تاريخي أمريكي»، وورد فيها الآتي: «السيدة كلينتون خلفها تاريخ مهني تكثر فيه علامات الاستفهام عن التقصير والإخفاق في ملفات حساسة ومهمة، كما أن وضعها الصحي لا يبعث على الاطمئنان كثيراً، وتعرضت لمتاعب صحية جدية الأسبوع الماضي، ما يجعل الانتخابات على أهم منصب في العالم عرضة للتقلبات والمفاجآت». وما كتبته لم يكن ينطوي على توقع صلب، ولا أزعم لنفسي قدرة على التحليل والاستشراف تفوق الآخرين، لكن ما كتبت في الحقيقة كان ينطوي على تحذير من المبالغة في الاطمئنان على النحو الذي لمست مظاهره بقوة طوال الشهور الماضية.
هناك دروس كثيرة يقدمها فوز ترامب، وأولها هو إعادة النظر في تصورنا للإعلام الغربي بوصفه المرجع الوحيد والمُعتمد للحقيقة، إذ مارس علينا هذا الإعلام نوعاً من «التضليل» قادنا إلى الاتجاه الخطأ، وكان من الصعب الصمود أمام سيل الأخبار والتعليقات والآراء والتغطيات التي اجتاحت العالم مبشرة بفوز متوقع لكلينتون. وأتصور أن كثيرين منا كان لديهم حدس داخلي بإمكان فوز ترامب، لكنهم حبسوه داخلهم أمام القصف الإعلامي المركز طوال شهور، واستكثروا على أنفسهم أن يكونوا هم «العارفون» فيما جيوش المحللين والخبراء والاختصاصيين الأمريكيين والأوروبيين، الأدرى بشِعاب أمريكا بالطبع، يتسابقون إلى تأكيد أمر مخالف تماماً، ويسوقون البراهين عليه.
ما المشكلة؟ المشكلة أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليست شأناً أمريكياً داخلياً فقط، وهي تهم الشرق الأوسط والعالم العربي أكثر من بعض الأحداث الداخلية الكبرى. والخضوع لتأثير الإعلام الأمريكي «المضلِّل» ربما حال دون الاستعداد الكافي سياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً لاحتمال فوز ترامب، فلم توضع تصورات أو خطط واضحة خليجياً وعربياً للتعامل مع ما يمكن أن يطرأ من متغيرات. والتخطيط المبكر القائم على افتراض بدائل معينة وإخضاعها للنقاش والبحث والتمحيص واختبار ما يصلح منها للبناء عليه، أمر مهم في مرحلة تتزايد فيها التهديدات والتحديات المحيطة بالعالم العربي، وتجعل الأخطاء مكلفة كثيراً. ووفقاً لما تابعته من ردود الفعل العربية الرسمية بعد فوز ترامب فإنه يبدو -على الأغلب- أنه لم تكن هناك تصورات حتى حول صيغ التهنئة أو الطريقة التي ستُقدَّم بها أو الرسائل التي ستتضمنها التصريحات الأولى بعد الفوز. الارتباك كان ملحوظاً.
ربما يلزم من الآن فصاعداً أن نضع الإعلام الغربي في الموقع الذي يستحقه. ولا أعني بذلك التقليل من أهميته أو توجيه الاتهامات إليه جزافاً. ووصفه بـ«المضلِّل» في هذه المقالة ليس معناه أنه يمارس تغييب الحقائق عامداً، بل لأن الانقياد خلفه والثقة المطلقة به منعانا من اتخاذ موقف هو بداهة أقرب إلى الصواب، يتمثل في مراعاة كل الاحتمالات.
تعاملنا كثيراً مع الإعلام الغربي بوصفه صاحب الكلمة الفصل، وكان العثور على بضع مقالات أو بضعة أخبار في صحيفة أمريكية كافياً لبناء يقين مستند إليها عن الموضوع الذي تُعنى به. وكثيراً ما تعاملنا مع الإعلام الغربي على أن معلوماته وتوقعاته وتحليلاته عن أدق شؤوننا الخاصة في الخليج العربي وكأنها الكلمة الفصل، على رغم ما كان يبدو فيها في كثير من الأحيان من أخطاء لا تخفى. وأصبحنا نأخذ ما ينشره الإعلام الغربي عن اقتصادنا وأمننا وعاداتنا الاجتماعية وتركيبتنا السكانية وتشكيلاتنا الوزارية وأروقة الحكم واتخاذ القرار وحقوق الإنسان في دولنا ومحددات تفكيرنا ووعينا، باعتباره مُسلَّماً به. وإذا كان هناك درسٌ يجب تعلُّمه من الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، قبل كل الدروس الأخرى، فهو وضع الإعلام الغربي في مكانه الصحيح بصفته واحداً من المصادر، يصيب ويخطئ، ويحسن الفهم حيناً ويسيئه أحياناً، وتصادف توقعاته وحتى أخباره الصواب في شأن بعض القضايا وتخطئه في قضايا أخرى.
سيكون علينا أيضاً أن نعيد النظر في الهالة التي نحيط بها استطلاعات الرأي الأمريكية وما هو راسخ في الأذهان عن منهجيتها وتعبيرها عن الواقع، فموقع «ريل كلير بوليتيكس» المرجعي في الولايات المتحدة كان حتى صباح يوم الانتخابات أعطى كلينتون تقدماً بـ3.3 نقطة على المستوى الوطني. وقلْ مثل ذلك عن مراكز البحث والدراسات وخزانات التفكير الأميركية والغربية التي نُجلُّ كثيراً ما يصدر عنها، فعشية التصويت كانت مؤسسة لقياس الرأي العام بحجم «إبسوس» تتوقع بنسبة 90 في المئة فوز هيلاري كلينتون، وحجم أعمال الشركة في الخليج وفي الدول العربية، وما ينبني على نتائج دراساتها من قرارات سياسية واقتصادية يؤكد أن هناك الكثير لدينا مما يحتاج إلى المراجعة.
فوز ترامب يدفعنا أيضاً إلى مراجعة ما هو مستقر من التفوق الأخلاقي الغربي وارتفاع الوعي العام الذي يجعل التصويت، وهو الركن الركين للعملية الديموقراطية، ينزع إلى العقلانية والرشادة بوحي من مبادئ إنسانية عليا. وفوز ترامب هو التطور الأبرز في سلسلة طويلة من المكاسب التي أحرزتها تيارات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وتنامي النزعات القومية والاستجابة لمن يخاطبون غرائز القوة والتفوق والعنف ويطرحون شعارات الكراهية. ويعكس ذلك أزمة حقيقية في الممارسة الديموقراطية التي ينبغي أن تفرز الأكفأ والأفضل وتسمح لهما بقيادة المجتمعات، في ظل شعارات أخلاقية ليبرالية ولو كانت المصالح هي من سيتحكم في النهاية، وهو ما يحتاج إلى دراسات علمية تحلل هذا الواقع الجديد، وتدرس آثاره على مستقبل العالم.
أعتقد أننا في الخليج العربي يجب أن نثق أكثر بصواب رؤانا الذاتية، وأن نؤمن بأننا راكمنا من الخبرة والمعرفة ما يسمح لنا بقراءة الواقع واستشراف المستقبل بعيداً من الضعف الذي يعترينا إزاء ما يتدفق علينا من إعلام الغرب ومراكز دراساته ومؤسسات استطلاع الرأي فيه، وهو الدرس الأهم المُستخلص من فوز ترامب. ولا يفوتنا كذلك أن نشير إلى أن التقويم الخليجي لسياسات باراك أوباما الضعيفة والمرتبكة، من جانب النخب الفكرية والثقافية ومن جانب دوائر الحكم وصنع القرار، كان الأكثر صدقاً وتعبيراً عن عمق الاضطراب الذي أصاب السياسة الأمريكية، وهو العامل الأهم الذي دفع الأمريكيين إلى النمط التصويتي المعروف باسم «التصويت الاحتجاجي»، بمعنى أنه لم يكن تصويت لشخص بقدر ما هو اعتراض على الآخر. وهذا النمط من التصويت الاحتجاجي غير محمود العواقب عادة، ويمكن من يريد التأكد أن يعود إلى تجربة مصر بانتخاب «الإخواني» محمد مرسي رئيساً لها في العام 2012، وما جرّه عليها من مشاكل.
*نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة