وتفاقمت أزمة فى الدولار في الستينيات على نحو لا يختلف كثيرا عن أزمة الدولار الحالية، ولكن فلنلاحظ كيف اختلفت سياسة الحكومة في الحالتين.
هذا سؤال يلح علي منذ أن أعلنت الحكومة قرار تعويم الجنيه يوم 3 نوفمبر الحالي.. فالتعويم إجراء مهم وخطير للغاية، والجميع، سواء في ذلك مؤيديه ومعارضيه، يتوقعون أن تكون أعباؤه ثقيلة على الناس، وأن تتشعب آثاره من أسعار السلع إلى أسعار الخدمات، ومن الاستهلاك إلى الاستثمار، وبالطبع أيضا، من الاقتصاد إلى السياسة.
كنت قد كتبت في مقالي السابق في هذه الجريدة، إن هذا الإجراء كان متوقعا وشبه حتمي، في الظروف التي وصلت إليها الأحوال الاقتصادية في مصر، وفى ظل الفجوة الشنيعة بين سعر الجنيه في السوق السوداء وبينه في المصارف الحكومية، وكذلك في ظل تبنى الحكومة سياسة حرية السوق، وهذه السياسة الأخيرة هي ما يدور حولها مقالي اليوم، أي ما الذي كان يمكن أن يتصور المرء أن تفعله الحكومة، فيما يتعلق بسعر الصرف لو كانت تسمح لنفسها بالخروج عن سياسة حرية السوق، وتعود إلى تبنى سياسة الاقتصاد الخاضع تماما لسيطرة الدولة، كما كان عليه الحال في الستينيات؟
السؤال مهم، مهما كانت درجة احتمال تطبيقه في الواقع في ظروف مصر والعالم اليوم، بعد انقضاء خمسين عاما على الستينيات، إذ إن الإجابة عليه من الممكن أن توضح الفارق بين الثمن الذي يدفعه المصريون مقابل اتباع هذه السياسة أو تلك.
في سنة 1967، حدثت لمصر كارثة عسكرية وسياسية، نتيجة الهجوم الإسرائيلي، واحتلال إسرائيل سيناء، وإصابة القدرة العسكرية لمصر بشلل استمر ست سنوات، حتى استطاعت مصر إعادة بناء قواتها المسلحة، والتصدي للاحتلال في 6 أكتوبر 1973، وهو ما سمح لمصر باستعادة الأراضي المحتلة، شيئا فشيئا خلال السنوات التالية، ولكن الآثار الاقتصادية للاعتداء الإسرائيلي كانت شنيعة أيضا، واستمرت بدورها ست سنوات، حتى استطاعت مصر أن تواجه مشكلة اقتصادية بعد أخرى.
مما يلفت النظر، عندما نتأمل مشكلات مصر الاقتصادية التي نشأت عن الاعتداء الإسرائيلي في 1967، واستمرت ست سنوات، أوجه الشبه بينها وبين المشكلات الاقتصادية التي واجهتها مصر منذ ثورة 2011، أي طوال ست سنوات أيضا، هناك طبعا اختلافات مهمة، ولكن أوجه الشبه مهمة أيضا.
كان هناك في الحالين، شيوع مناخ من عدم الاستقرار وعدم الاطمئنان على مستقبل النظام السياسي، الذي تولد عن هجوم عسكري في حالة، وقيام ثورة شعبية في الحالة الأخرى، وهو ما لابد أن يهدد أي استثمار من الخارج أو الداخل، كان من النتائج الطبيعية أيضا تدهور إيرادات السياحة، مع توقف إيرادات قناة السويس في الحالة الأولى بسبب إغلاق القناة، وانخفاض إيراداتها في الحالة الثانية بسبب حالة الاقتصاد العالمي، لم تكن تحويلات العاملين في الخارج تلعب دورا مهما في الاقتصاد المصري في الستينيات، ولكنها انخفضت عقب ثورة 2011، لا يقل عن كل هذا أهمية ما حدث للمعونات الخارجية من منح وقروض ميسرة، كان موقف الولايات المتحدة من الحكومة المصرية في منتصف الستينيات قد تغير بشدة، وكأن الإدارة الأمريكية كانت تهجم على مصر اقتصاديا في نفس الوقت الذي هاجمتها فيه إسرائيل عسكريا، وتبع ذلك موقف عدائي أيضا من مؤسسات التمويل الدولية، أما في الست سنوات التالية لثورة 2011، فقد كانت الظروف الدولية قد تغيرت كثيرا، ولكن النتيجة للأسف كانت مشابهة لما حدث في الستينيات، فمع تقلب الاتجاهات السياسية في مصر من ثورة شعبية إلى مجيء حكم الإخوان المسلمين، إلى ثورة أخرى ضد الإخوان، اتخذت القوى الخارجية (ومعها مؤسسات التمويل) مواقف متضاربة، ولكنها أسفرت عن انخفاض ما تحصل عليه من معونات، فحصلت مصر على وعود أكثر مما حصلت على الأموال.
كان لا بد أن يحدث في الحالين، نتيجة لاجتماع كل هذه العوامل، نقص فاحش في حصيلة مصر من العملات الأجنبية، وتفاقمت أزمة في الدولار في الستينيات على نحو لا يختلف كثيرا عن أزمة الدولار الحالية، ولكن فلنلاحظ كيف اختلفت سياسة الحكومة في الحالين.
كانت السياسة الاقتصادية في الستينيات في مصر (مثلما كانت في كثير من بلاد العالم الثالث، وفى العالم ككل) تقوم على أساس دور محوري للدولة، سواء من حيث حجم القطاع العام، أو التحكم في سعر الصرف، أو التصدي لمشكلة التفاوت في الدخول بين طبقات المجتمع، وهو بالضبط عكس الشائع في العالم اليوم: الدولة تنسحب، والقطاع العام يتقهقر، وتشتد المناداة بالخصخصة، وتطلق حرية التعامل في العملات الأجنبية، وتتسع الفجوة بين الطبقات، لهذا كان رد فعل حكومة الستينيات في مواجهة الأزمة الاقتصادية مختلفا جدا عنه الآن، اذ استمر تحكم الدولة في سعر الصرف، وحدث تخفيض الواردات (الذى أصبح ضروريا بسبب انخفاض حصيلة الدولارات) عن طريق التخفيض الشديد في الاستثمار العام، ولو أدى إلى التضحية بمعدل النمو ريثما تنتهى الأزمة، وكان هذا هو ما حدث بالفعل: انخفضت بشدة معدلات نمو الناتج القومي، وألقى بخطة الخمس سنوات الثانية (65 ـ 1970) عرض الحائط، ولكن مع التساهل في توفير سلع الاستهلاك الأساسية للناس، بل ولوحظ توافر أكبر لبعض هذه السلع في المجمعات الاستهلاكية منعا لإضافة التذمر بسبب الاقتصاد الى التذمر بسبب ما حدث في السياسة، استمرت أيضا سياسة تخفيض التفاوت بين الدخول، ولو بحماس أقل، كما يظهر مثلا في إصدار تخفيض جديد للحد الأقصى للملكية الزراعية في 1969، بل حتى في السياسة، سمحت الحكومة بقدر أكبر من التنفيس عن مشاعر الغضب مما كان مسموحا به قبل 1967، فأدخلت إلى مجلس الوزراء بعض الأفراد الذين يتمتعون بشعبية أكبر، فعينوا وزراء أملا في امتصاص بعض مشاعر الغضب، وسمحت مثلا بعرض مسرحية على سالم (انت اللي قتلت الوحش) عقب الهزيمة، وهى التي توجه نقدا مباشرا لرئيس الدولة.
من المدهش أن الحكومة الحالية تواجه الأزمة الاقتصادية بوسائل تكاد تكون العكس بالضبط من وسائل الستينيات، تحرير أكبر لسعر الصرف، وضرائب أعلى على سلع الاستهلاك، دون اتخاذ إجراءات جبرية لتخفيض الفوارق بين الدخول، واستمرارh في تبنى سياسة الاستثمار في مشروعات عملاقة لا تقدم العلاج للأزمة الراهنة، ولا تؤتي ثمارها إلا بعد وقت طويل، نعم، إننا نعيش اليوم في عالم مختلف عما كان عليه العالم منذ خمسين عاما، ولكن ألم يترك لنا العالم الجديد أي حرية حقا في طريقة التعامل مع أزمة اقتصادية طاحنة، كالأزمة الحالية؟!
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة