ينبغي على أميركا أن تجري مراجعة ضمير لتحديد الأسباب التي أدّت إلى تفوّق مرشح من خارج التركيبة السياسية على شخصية سياسية متمرسة في رصيدها عقود من الخبرة.
الانتخابات الحرة والنزيهة هي من ركائز الديمقراطية الأساسية، شأنها في ذلك شأن الانتقال السلس والسلمي للسلطة. أميركا قالت كلمتها، وسواءً كنّا نوافق على خيارها أم لا، يجب القبول به واحترامه في الداخل والخارج.
ليس سراً أنني كتبت مقالة في أغسطس العام 2015 أعلنت فيها تأييدي القوي لدونالد ترامب، ودعمت ترشيحه للرئاسة خلال الكلمة التي ألقيتها أمام المندوبين المشاركين في المؤتمر السنوي الرابع والعشرين لصنّاع السياسات الذي أقيم في واشنطن العام الماضي. شعرت آنذاك – وما زلت أشعر – ان من شأن رجل الأعمال الناجح أن يتمتع بالمهارات اللازمة لتعزيز الاقتصاد الأميركي ما يؤدّي بدوره إلى منح اندفاعة للاقتصاد العالمي.
لا يمكنني أن أنكر انني صُدِمت وفوجئت بنيته المعلَنة حظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة (سياسة غير مدروسة اختفت الإشارة إليها اخيراً عن موقع ترامب الإلكتروني)، ما أرغمني على سحب الدعم الحماسي الذي كنت قد أظهرته له في البداية.
أعتقد الآن أنه بعد تسلّمه سدّة الرئاسة، سيتعامل مع المسائل بطريقة أفضل ويصبح لديه إدراك أكبر عن العواقب المحتملة. لقد أظهر في الأيام الأخيرة خصالاً أكثر ملاءمة لشخصية الرئيس. فقد بات خطابه أكثر هدوءاً واتزاناً، ويعكس سلوكه الجديد جدّية طموحاته.
فلنعطِ دونالد ترامب حق قدره. لقد فاز في سباق شديد الصعوبة خاضه بصلابة استثنائية رغم الانتقادات المستمرة من وسائل الإعلام التي أظهرت بغالبيتها الساحقة ميلاً إلى هيلاري كلينتون، ومن شخصيات المؤسسة السياسية أو ما يُعرَف بـ”الاستابلشمنت” من مختلف الانتماءات، بما في ذلك تعرّضه للهجمات من الرئيس باراك أوباما. لا بد لي من إبداء إعجابي بدهائه. لقد شقّ طريقه بعزم شديد إلى جادة بنسلفانيا، في حين أن أعداءه لم يكفّوا عن مطاردته على امتداد عامَين من حملته الانتخابية.
ينبغي على أميركا أن تجري مراجعة ضمير لتحديد الأسباب التي أدّت إلى تفوّق مرشح من خارج التركيبة السياسية على شخصية سياسية متمرسة في رصيدها عقود من الخبرة. واقع الحال هو أن المنظومة خذلت الملايين من الأميركيين المكافحين الذين رفضوا في الثامن من نوفمبر الوضع القائم الذي تجسّده وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون.
هؤلاء الأشخاص نسيَهم المستطلِعون؛ لقد شعروا ان واشنطن تخلّت عنهم. وكثرٌ منهم صوّتوا للمرة الأولى في حياتهم. شعر الرجال والنساء العاديون ان دونالد ترامب قريب منهم. لقد تكلّم لغتهم، وتفاعل مع مظالمهم، ولم يعرض تغييراً حقيقياً فقط بل أثار أيضاً إحساساً متجدداً بالاعتزاز الوطني.
يجب الآن منح الرئيس المنتخب فرصة لتنفيذ تعهداته. يجب إعطاؤه فرصة كي يتمكّن من إعداد سياساته وتشكيل فريق عمله، وكي يثبت للأميركيين أن وعوده باستحداث وظائف وإنشاء بنى تحتية جديدة ومضاعفة نمو إجمالي الناتج المحلي – والعمل مع الحلفاء للقضاء على تنظيم “داعش”، لم تكن مجرد كلام فارغ بهدف الحصول على الأصوات.
لكن ومن أجل أن يتمكّن من تحقيق مصالح الولايات المتحدة في الداخل والخارج، ينبغي على الأميركيين أولاً أن يتخلصوا من شكوكهم وأن يلتئم شملهم في سبيل الخير العام. الاحتجاجات الشعبية وأعمال الشغب والتخريب ليست هي الحل، بل تتسبّب بتفاقم مشاعر الضغينة والانقسامات.
مهما رُفِعت لافتات أو أُطلِقت هتافات للتنديد بترامب، لن تتمكّن الاعتراضات، ولو اشتدّ حجمها، من وقف عجلة التاريخ. لقد فاز دونالد ترامب بـ290 صوتاً في المجمع الانتخابي، وسيتم تنصيبه الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة في 20 يناير 2017.
الأشخاص المصمّمون على إفساد ذلك اليوم بالاحتجاجات يرتكبون حماقة تلحق الأذى بهم وبإخوتهم في الوطن. عندما تحلّ التفرقة والتجاذبات بين الأميركيين فيتناتشون بلادهم في اتجاهَين معاكسين، لن تكون العواقب حميدة، ولن يعود بالإمكان تحقيق أي شيء على الإطلاق. تحتاج أميركا إلى الوحدة وليس الانقسام. البلاد بأمس الحاجة إلى المعافاة والتئام الجروح. يدرك الرئيس أوباما ذلك، لهذا السبب وضع كل الإهانات ومشاعر الضغينة خلفه، ومدّ يده برقيٍّ إلى خلفه.
أناشد جميع الأميركيين التمثّل بالترفّع الذي أظهره أوباما. الأحقاد والضرب على وتر “ماذا لو” تدمّر البلاد والعباد. لن يكسب الأميركيون شيئاً من وضع العراقيل أمام الرئيس الجديد وجعل مهمته أصعب مما هي عليه في الأصل، أو من تقويض مكانته في أنظار العالم.
بعد تعيينه فريق عمله، يجب إمهاله عاماً واحداً على الأقل ليُظهر ما هو قادر على فعله. في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، آمل بأن يعيد ترامب التفاوض على الاتفاق النووي الإيراني، ويعمل لإنهاء المجزرة في سورية، ويطهّر عالمنا من آفتَي الإرهاب والتطرف.
إليكم هذا التوقّع. تماماً كما أن الرئيس رونالد ريغان أثبت أنه مختلف عن الصورة التي ظهر عليها في البداية، ممثّل هوليوودي تجرأ على الترشح للمنصب الأعلى وتعرّض للسخرية بسبب ذلك، سوف يستجمع الرئيس ترامب قواه ويحيط نفسه بأشخاص متمرسين ويكون على قدر التحدّي. فمثلما يصنع المرء المنصب، المنصب يصنع أيضاً الإنسان.
لا يسعني سوى أن أتمنّى لترامب والأشخاص الذين سيقسم اليمين على خدمتهم بعد أقل من سبعة أسابيع، كل التوفيق من أجل إعادة إحياء الحلم الأميركي وترسيخ مكانة أميركا المستحَقّة على رأس العالم الحر. التسامح والمصالحة هما الأساس لمستقبل لامع للجميع.
نقلا عن جريدة السياسة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة