الاغتيال زاد الوضع في المنطقة توترا، على خلفية مخاوف من أن تدخل إيران في مواجهة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل قبل تولي بايدن مهام منصبه.
من الواضح أن اغتيال العالم النووي الإيراني، محسن فخري زاده، يكشف عن نقاط ضعف في أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية، وعن وجود بعض الثغرات في المجال الأمني والاستخباراتي الإيراني، كما أن إتمام العملية بهذه الصورة جعل الوضع في المنطقة أكثر خطورة قبل أقل من شهرين من تولي الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن مهامه الفيدرالية، ليتبع نهجا قد يؤدي إلى تجديد العلاقات الأمريكية الإيرانية في أسسها الموضوعة .
إن اغتيال فخري زاده زاد الوضع في المنطقة توترا على خلفية مخاوف من أن تدخل إيران في مواجهة مع الولايات المتحدة، أو إسرائيل قبل تولي بايدن منصبه، وبرغم ذلك تبقى خيارات الرد الإيراني محدودة للعديد من العوامل، من بينها رغبة إيران في حدوث انفراج في الموقف مع الإدارة الأمريكية المقبلة، وعدم مسعى الجانب الإيراني للدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة، إضافة إلى استمرار المخاوف الإيرانية التي عبّر عنها الرئيس حسن روحاني من أن أحد أهداف مقتل "فخري زاده" هو إقدام إيران على الانتقام ثم توجيه ضربة عسكرية كبرى لها، وهو ما اسماه الاستفزاز السياسي والأمني والذي سيبقى في إطاره الحذر.
مبدئيا يمكن تفسير أهم أسباب اغتيال محسن فخر زاده بعدة عوامل مهمة الأول هو تمكُن جهاز ال CIA والاستخبارات العسكرية والموساد الإسرائيليين من اختراق الدوائر الأمنية الإيرانية، وهذا ما تؤكده حالة تتبع مسار رحلة الجنرال قاسم سليماني الأخيرة من بيروت حتى بغداد يوم 3/1/2020 وهو ما تكرر بالضبط مع حالة زادة، الثاني هو عدم جدية التهديدات الإيرانية بعد أي عملية تنفذها إسرائيل في العمق الإيراني أو اصطياد قيادات علمية أو أمنية بارزة، والسبب الثالث يكمن في عدم رغبة إيران في خوض مواجهة عسكرية مفتوحة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وإعطاء فرصة للوسطاء للتدخل في نزع فتيل الأزمات المتوقعة، ولا أدل على ذلك من تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني بعد عملية اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة، وتأكيداته المكررة من أنه إذا جاءت تهديدات حسن روحاني فقط في إطارها، و اكتفى باتهام إسرائيل بعملية الاغتيال وهدد بالثأر للعالم النووي في الوقت المناسب.
وتستهدف عملية الاغتيال في مجملها، والتي من المتوقع أن تتكرر بهدف تصفية علماء إيرانييين آخرين في مجال البرنامج الصاروخي، وليس النووي، وهو الهدف الرئيسي والمركزي للجانب الإسرائيلي، إفشال المساعي الحالية للتحضير للمفاوضات المحتملة، مع إدارة جو بايدن، وإن كان هذا الأمر سيأخذ بعض الوقت في ظل التوقع بأن الإدارة الأمريكية الجديدة لن تفتح ملف التفاوض مع إيران إلا بعد ال100 يوم الأولى من عمر الإدارة الأمريكية على أساس أن هناك أولويات داخلية سيكون لها الأسبقية، ومنها التعامل مع أزمتي كورونا وإعادة فتح الاقتصاد وتشغيل وحدات الإنتاج وخطوط العمل المتخصصة والمعطلة منذ عدة أشهر .
وقد اعترف الرئيس الأمريكي ترامب قبل اغتيال فخري زاده بأنه كان مطلوبا من جهاز الموساد الإسرائيلي وأن إسرائيل (ومعها الرئيس ترامب بطبيعة الحال) وجهت ما هددت به خلال الأيام الماضية، بتوجيه ضربة محددة داخل إيران. لكن الضربة لم تكن كما تصور البعض حيث لم تكن ضربة عسكرية أو طيران، وإنما اغتيال واحد من أهم الكوادر الإيرانية النووية.( زاده كان شديد التحصين وحاولت تل أبيب الوصول إليه من قبل لكن فشلت، كما استهدفت إسرائيل علماء وشخصيات إيرانية في الداخل من قبل).
ولا شك أن رئيس الوزراء نتنياهو قد استفاد من هذه الضربة بأكثر من جهة أولها أنها تصعب مهمة الرئيس المنتخب بايدن أكثر فأكثر في العودة إلى الاتفاق النووي بصورة مباشرة برغم كل تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، ثانيها أن إيران لو وجهت ضربات إلى أي أهداف إسرائيلية فلن تكون موجعة لتل أبيب وحدها وستضع الولايات المتحدة معها في مأزق ويختلق صراعا أميركيا إيرانيا كان يسعى إليه رئيس الوزراء نتنياهو من فترة طويلة، ونجحت الإدارة الأمريكية الراهنة في السيطرة عليه خاصة، وأن إسرائيل ستعمل على تحقيق أهدافها المنفردة من الجانب الإيراني بدون تنسيق أو دعم أمريكي كما يتصور البعض، خاصة وأن إسرائيل اختبرت الموقف الأمريكي الراهن جيدا كما ترتب لخيارات أخرى في التعامل مع إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن، بصرف النظر عما تردده في خطابها السياسي والإعلامي تجاه التعامل مع ايران .
ومن الخطأ أن نتوقع أية ضربة عسكرية أمريكية على إيران في الوقت الراهن أو المنتظر، بقرار من الرئيس ترامب. فليست هناك ضربات عسكرية وحروب مباشرة فقد قضي الأمر مع إدارة الرئيس ترامب وهناك العديد من القيود على القيام بذلك، ثانيا إن ضرب إيران من الداخل قد بدأ من فترة ومستمر بضربات نوعية وتكتيكية لمواقع نووية ومواقع صنع وإنتاج الصواريخ، ولا ننسى كم التفجيرات والحرائق في مواقع هامة داخل إيران بفعل العملاء والجواسيس المنتشرين في الأراضي الإيرانية بصورة كبيرة ويؤدون مهام استخباراتية حقيقية وبتكلفة محدودة للغاية .
المعروف أن ضباط الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية متواجدون بالداخل الإيراني سواء عملاء أو عناصر مدربة، حيث تم قتل قيادي القاعدة الرجل الثاني المسمى المصري مؤخرا، كما أن إسرائيل تسابق الزمن من أجل تعطيل عودة الرئيس المنتخب جو بايدن للاتفاق النووي لأطول حد ممكن، والمنطق يقول إن إسرائيل صاحبة مصلحة في تصفية المصري لتحقيق عدة أهداف مرة واحدة حيث تؤكد علاقة إيران بالقاعدة، ولعلها تحرج الرئيس المنتخب جون بايدن الذي يريد الانفتاح على إيران التي تعاني من حالة من الانكشاف الأمني غير المسبوق والفشل في إدارة الداخل الأمني في ظل اختراقات متتالية تطول أغلب أجهزة المعلومات الداخلية، بما في ذلك الحرس الثوري وقوات النخبة وغيرها .
ترى التقييمات الاستخباراتية الإسرائيلية أن الجانب الإيراني قد يرد في وقت لاحق، وذلك من خلال عدة وسائل تملكها إيران وتتمثل في تنفيذ عمليات اغتيال في الخارج. وتمت الإشارة إلى أن فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يضم وحدة اغتيالات معروفة بـ "الوحدة 804". و أن عناصر الوحدة المعنية بذلك بعضهم أجانب والبعض الآخر إيرانيون مقيمون بالخارج. وعناصر "الوحدة 804 مدربون على تنفيذ عمليات خارج الحدود الإيرانية بما في ذلك عمليات اغتيال، كما أنه خلال الخمس سنوات الماضية، ارتبط اسم الوحدة بـ6 عمليات تصفية في دول أوروبية وبمحاولة اغتيال فاشلة في الولايات المتحدة، و إلى أن فكرة اغتيال مسؤولين وشخصيات إسرائيلية أو مقربين لإسرائيل بإحدى البلدان الأوروبية هي احتمال، وضمن قدرات فيلق القدس والوحدة 804".مع بقاء الاحتمال الآخر للهجوم على إسرائيل هو القيام بعملية انتقامية ضد أهداف إسرائيلية في الخارج. وعلى ما يبدو إلى أهداف تابعة لإسرائيل في الخارج.
إن اغتيال العالم الإيراني، يمثل ضربة كبيرة لطهران ولها أبعاد ودلالات رمزية كبيرة، وتهديد حقيقي لطموحاتهم النووية. و حادث الاغتيال يبعث برسالة مفادها أنه حتى مع وصول إدارة أمريكية جديدة، إلا أن الهجمات على أي شخص يثير قلق أعدائها لن تتوقف، فضلًا عن أن اغتيال فخري زاده أبرز نقاط الضعف الأمنية الداخلية. والواضح أن الاستخبارات الإيرانية ضعيفة ولا تستطيع الصمود أمام الاستخبارات المركزية الأمريكية أو الموساد، وأن اغتيال رجل في مكانة فخري زادة في وضح النهار يعزز الانطباع بأن هناك حدودا لقدرات النظام الإيراني الحالي. والتوقع أن يكون رد فعل إيران في إطاره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة