ما جرى قبل عدة أيام من دخول للمتطرفين إلى داخل باحة الأقصى هو حلقة جديدة وخطيرة من حلقات عديدة لا سيما منذ عام 1967.
مرة جديدة وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان الفضيل ظهر للعلن أن الأقصى في خطر حقيقي، وأن النوايا الإسرائيلية قائمة وقادمة تجاهه لا تتغير ولا تتبدل، الأمر الذي يعقد الكثير من المشاهد في المنطقة الملتهبة في الأصل، وفي المقدمة مشهد عملية السلام المأزوم بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
مرة أخرى ضمن مرات عديدة تسمح الشرطة الإسرائيلية بدخول نحو ألف متطرف يهودي إلى باحة المسجد الأقصى، في محاولة لا تنقطع لتغيير الوضع القائم، ذاك الذي يحدد أعداد زيارة غير المسلمين للمسجد، ومنع ذلك في أيام محددة، وبالأخص منها العشر الأواخر من رمضان.
هل هناك خلفيات تاريخية توضح لنا أبعاد المشهد الأخير في زهرة المدائن؟
المقطوع به أن الاعتداءات المتكررة على الأقصى ليس لها سوى هدف واحد، يأتي ضمن مخطط تهويد المدينة المقدسة، والسيطرة عليها إسرائيلياً مرة وإلى الأبد، وضمن هذا المخطط يأتي الحديث عن جدلية الأقصى والهيكل، تلك التي يروج لها المتطرفون اليهود من جهة، ويدعمهم رجالات اليمين المسيحي الأصولي من ناحية ثانية.. ماذا عن ذلك؟
الرئيس ترامب أمامه فرصة تاريخية لأن يكتب اسمه في سجل القياصرة الأمريكيين أن قدر له أن يقيم سلاما دائما وعادلا يراعي فيه الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وأن يضمن أمن وأمان إسرائيل، فالعرب قدموا منذ عام 2002 يدا طولى لمشروع سلام ووئام مع إسرائيل.
قبل الدخول إلى عقدة القصة ومحورها الرئيس، أي فكرة هدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان الثالث على الأراضي الفلسطينية، نشير إلى أن المشهد يمضي في سياقات زمنية مزعجة للغاية تبدأ من عند فكرة مشروع تقسيم الأقصى زمانيا ومكانياً؛ بمعنى أن الأقصى الذي كان طوال ألف وأربعمائة عام مكاناً مقدساً للعالم الإسلامي والمسلمين حول العالم، سيضحى عما قريب، ووفقاً لقانون تسعى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تبنيه، محل تقاسم لأداء شعائر وصلوات اليهود أيضاً بوصفه الأرض التاريخية التي أقام سليمان هيكله عليها من قبل حسب الادعاءات اليهودية، وهي خطة تفيد بتخصيص أوقات معينة لدخول المسلمين، وأخرى لدخول اليهود طوال أيام الأسبوع؛ حيث يتوجب على المسلمين مغادرة الأقصى على ثلاث فترات صباحاً وظهراً وعصراً.
أما التقسيم المكاني فيعني تخصيص أماكن بعينها في المسجد الأقصى لكل من الطرفين، وبالتحديد تخصيص مساحة في الجهة الشرقية بعينها من المسجد تشكلة خمس مساحة ما يسمى بـ"جبل الهيكل".
لم يكن اليمين اليهودي وحده من يذكي نيران الفتنة في الأرض المقدسة، فقد سبق ولعب اليمين الأمريكي المتطرف دوراً شديد الوعورة والخطورة في هذا الإطار، ما تمثل في كتابات ترويجية عديدة، وإن كانت مغلوطة حول هذا الإطار.
في أوائل عام 1989 نشرت مجلة التايم الأمريكية الشهيرة تحقيقاً تحت عنوان "هل آن أوان بناء الهيكل الجديد؟ وتبعته بعنوان فرعي يقول: "اليهود التقليديون يأملون في تشييد بنائهم المقدس، لكن مسجداً وقروناً من العداء تقف في طريقهم".
تحليل الكلمات السابقة يقودنا إلى عمق أطروحة الهيكل، وهي جزء رئيس بل القلب من دولة إسرائيل الجديدة، الأمر الذي أكد عليه الآباء المؤسسون لدولة إسرائيل الحديثة.
في بدايات نشوء وارتقاء إسرائيل تحدث الرئيس الأول "دافيد بن جوريون" المسمى أيضاً بـ"أسد يهوذا" قائلاً: "إنه لا قيمة لإسرائيل دون القدس، ولا فائدة للقدس بدون الهيكل"، وعلى هذا فإن بناء الهيكل يعني استئناف العلاقات اليهودية الربانية، والتي تهيئ الأجواء لعودة "المسيح اليهودي" حيث إنهم حتى الساعة لا يؤمنوا بالمسيح "عيسى ابن مريم".
على أن علامة الاستفهام المثيرة والخطيرة معاً: "أين كان موضع الهيكل القديم؟".
غالبية من يؤمنون بتلك الرواية غير المعززة تاريخياً، يرون أن موقعه وموضعه كان حيث قبة الصخرة اليوم، ولهذا يصر غلاة اليمين اليهودي على أنه يجب إزالته، وآخرون يذهبون إلى أن أساساته قائمة تحت زوايا وأركان المسجد الأقصى، ولهذا يبقى الأقصى وما حوله في كل الأحوال هو الهدف المنشود، وبين هذا وذاك تبقى منطقة الحرم بأكملها عنواناً مستباحاً لأعمال الحفر والتنقيب عن آثار الهيكل القديم.
ما جرى قبل عدة أيام من دخول للمتطرفين إلى داخل باحة الأقصى هو حلقة جديدة وخطيرة من حلقات عديدة، لا سيما منذ عام 1967، ففي الأيام الأولى من حرب الستة أيام عام 1967، ذهب بعض عتاة التطرف من الجنرالات الإسرائيليين إلى وضع نحو مائة كيلوجرام من المفرقعات في الأقصى وقبة الصخرة، ونسف المنطقة عن بكرة أبيها، ولم يردع تلك الأفكار إلا المخاوف من الولايات المتحدة ذات العلاقات الوثيقة مع الكثير من القوى العربية النافذة في المنطقة في ذلك الوقت.
السؤال العقلاني الذي يجب طرحه وبعيداً عن البكائيات التاريخية: "هل تستقيم مثل هذه التوجهات الإسرائيلية في الوقت الذي يقترب فيه لقاء المنامة، والذي يسميه البعض طريق السلام الاقتصادي لا السياسي؟
بعد عيد الفكرة سوف تمضي واشنطن في طريقها إلى البحرين، في محاولة لتمهيد طرق التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وفي استباق لأحاديث عديدة دارت وتدور حول قضية "صفقة القرن"، غير أن أفعال على هذا النحو سوف تجعل من مجرد المشاركة في مثل هذه اللقاءات تهمة قد يراها البعض خيانة، لا سيما أن الأمر هنا لا يقف عند حدود الخلافات السياسية أو الأيديولوجية بين الجانبين، بل يتجاوزه إلى المساس بالمقدسات، وهذه بدورها لا يمكن لأحد أن يتنازل عنها أو يتفاوض من حولها، إنها مقدسات ومطلقات لا تقبل التفاوض أو التشارع، ودونها خرق القتاد كما يقال.
كان من الواضح جداً في قمم مكة الأخيرة أن القادة العرب واعون كل الوعي لأبعاد المؤامرات التي تحدث على الأرض المقدسة، ولهذا فإنه بجانب الإدانة الشاملة والكاملة لإيران التي جاءت في البيان الختامي، كانت المواقف الحاسمة والحازمة من القضية الفلسطينية ومن عروبة القدس واضحة لا تقبل اللبس ولا المناورة، فالحق أحق أن يتبع.
الرئيس ترامب أمامه فرصة تاريخية لأن يكتب اسمه في سجل القياصرة الأمريكيين أن قدر له أن يقيم سلاماً دائماً وعادلاً يراعي فيه الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وأن يضمن أمن وأمان إسرائيل، فالعرب قدموا منذ عام 2002 يداً طولى لمشروع سلام ووئام مع إسرائيل، لكن الأخيرة تسوف الوقت وتعقد المشهد.
الخلاصة.. الكبت والفصل العنصري والاعتداء على المقدسات لا يفيد.. وحده السلام طريق النجاة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة