"العين الرياضية" تتقصى الحقيقة.. أين لعب صالح سليم في النمسا؟
رغم مرور 59 عاما على رحلة احتراف صالح سليم، رئيس النادي الأهلي المصري الراحل، في النمسا، فإنها لا تزال مغلفة ببعض الألغاز التي تبدو عصية على الحل.
تلك الرحلة لم تستمر طويلا، رغم الانطباع الأول الاستثنائي الذي تركه صالح سليم في جماهير فريقه النمساوي، وأدائه الكبير في المباريات التي شارك فيها في الدوري الممتاز، رغم تعرضه لإصابة عطلته كثيرا.
سليم، الذي تصنفه المواقع المتخصصة في كرة القدم على أنه "لاعب وسط مهاجم"، حظي باستقبال استثنائي في المطار ومحطة قطار المدينة التي لعب لفريقها الأهم في ذلك الوقت.
إلا أن ملابسات بداية رحلة الاحتراف وأيضا نهايتها السريعة، واسم الفريق الذي لعب له، تثير كثيرا من اللبس في الوطن العربي حتى اليوم.
وحتى أشهر قليلة مضت، كانت مواقع وصحف مهمة تخطئ في اسم الفريق الذي احترف فيه صالح سليم، وتقول إن نجم الأهلي لاعبا ورئيسا احترف في نادي "جراتس"، وهو ما قامت "العين الرياضية" برحلة خاصة للتأكد من دقته ومدى صحته
وصالح سليم (١٩٣٠-٢٠٠٢) هو أحد أساطير ورموز كرة القدم المصرية والعربية، ليس كلاعب فقط وإنما امتد سحره إلى المناصب الإدارية، ليسجل اسمه بأحرف من نور في عالم اللعبة، لذلك تكتسب رحلته كلاعب كثيرا من الاهتمام حتى اليوم.
كيف بدأت الرحلة؟
اللغط والألغاز المحيطة برحلة احتراف صالح سليم دفعت "العين الرياضية" إلى تقصي الحقيقة والبحث عن الرواية الصحيحة لقصة احتراف "المايسترو"، من بين أفواه أحد أطرافها النادي النمساوي الذي لعب له نجم الأهلي الراحل.
في البداية، سارت "العين الرياضية" على خطى المنشور عن قصة احتراف المايسترو في صحف مصرية، وبحثت عن النادي المعروف "اختصارا" في النمسا بنادي "جراتس"، لتصل إلى موقع وصفحات نادي "ستورم جراتس" على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
وستورم جراتس هو النادي الوحيد الذي يحمل اسم المدينة الواقعة في جنوب النمسا "جراتس"، ويلعب في الدوري الممتاز، بل إنه حل ثانيا في ترتيب البطولة في موسم 2021-2022.
لكن تريزا جوتمان، مسؤولة الإعلام في نادي "شتورم جراتس"، كانت صاحبة أول تشكيك في الرواية المنتتشرة عن احتراف المايسترو بالنادي، إذ قالت لـ"العين الرياضية": "عدت إلى مؤرخينا.. صالح سليم لم يحمل ألوان فريقنا"، لكنها أشارت إلى النادي الآخر الذي لعب له نجم الأهلي الراحل، واسمه الرسمي "جراتسر إيه كيه".
وكانت تصريحات جوتمان أول الخيط في رحلة تقصي الحقيقة.. وبالفعل، تواصلت "العين الرياضية" مع نادي "جراتسر إيه كيه"، ورد ماثيو ديلاتشر مسؤول الاتصال بالنادي، وقال: "للأسف، ليس لدينا أرشيف من هذه الفترة.. بعد الإفلاس في عام 2012 بدأ النادي مرة أخرى من الدرجة الثامنة".
لكن ديلاتشر، الذي كان فريقه بطلا للدوري النمساوي الممتاز عام 2004، أي قبل 8 سنوات من الإفلاس، أحال الأمر إلى هيربرت راينسيل، وهو المسؤول الذي تولي جمع أرشيف النادي بعد حالة الانهيار الذي تعرض لها في ٢٠١٢.
وفك راينسيل، في حديثه لـ"العين الرياضية"، ألغاز فترة احتراف المايسترو في النمسا، وفجر مفاجآت كبيرة تشمل طريقة إتمام التعاقد، والمقابل المادي، واستقبال سليم من قبل مشجعي النادي.
وقال راينسيل: " تلقى صالح سليم (32 عاما في ذلك الوقت)، قائد الأهلي وأهم لاعب كرة قدم في مصر، أواخر عام 1962 خطابا غير معتاد من النمسا، ممهورا بتوقيع المدرب النمساوي فريتز بيمبيرل، الذي قاد القلعة الحمراء 7 سنوات متواصلة".
وكتب بيمبيرل لصالح سليم خطابا بلغة غير رسمية تعكس العلاقة التي كانت تربطهما، وقال إنه "أصبح مدربا لفريق من فرق الدوري الممتاز في النمسا، لكنه يعاني من بعض المشاكل".
وأضاف: "مهاراتك وأفكارك التكتيكية يمكن أن تساعد الفريق على الترقي في جدول الدوري المحلي"، وفق ما رواه راينسيل لـ"العين الرياضية"، قبل أن يمضى المدرب قائلا: "منحني النادي الفرصة لضم أي لاعب أجنبي أريده، وأنت اللاعب الوحيد الذي أرغب في ضمه".
وأرسل فريتز بيمبيرل عقدا مع الخطاب، وطلب من سليم أن يوقعه إذا وافق على العمل معه.. وفي مقدمة العقد، كتب كونراد راينتهالر، رئيس النادي النمساوي في ذلك الوقت: "ستحصل على المقابل المادي الذي يتقاضاه أي لاعب في قائمتنا، وهو 5 آلاف شلن نمساوي شهريا (يعادل 100 جنيه مصري وقتها)".
وبالفعل وافق سليم ووضع توقيعه على العقد، وأصبح لاعبا في جراتسر إيه كيه (يلقب بالشياطين الحمر) بشكل رسمي في فبراير/ شباط 1963، ووصل مطار فيينا في وقت لاحق، حيث حظي باستقبال كبير من ممثلي النادي، قبل أن يستقل القطار إلى مدينة جراتس جنوب النمسا.
وعندما توقف القطار في المحطة الرئيسية في جراتس، وجد سليم حشدا كبيرا من المشجعين في استقباله، يحملون لافتات بالعربية والألمانية ترحب به، وكان بينهم العديد من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في المدينة، وفق رواية راينسيل.
انطلاقة استثنائية
في أول مباراة ودية لصالح سليم مع الفريق، تحديدا في 3 أبريل/ نيسان 1963، سجل اللاعب 6 أهداف في مرمى فرونلايتن، في المباراة التي انتهت بنتيجة 14-1، وحضرها حشد كبير من الجماهير لمشاهدة النجم الذي أطلقت عليه الصحافة وقتها "الفرعون المصري".
وبعد هذه المباراة بـ4 أيام، وضع المدرب فريتز لاعبه الجديد في التشكيل الأساسي في مباراته الرسمية الأولى ضد فريق لاسيك بالدوري المحلي، ورغم تقديم الفريق أداء ضعيفا، فإنه خرج متعادلا 1-1 بفضل تسديدة قوية لصالح سليم في الدقيقة 39، وبات أول مصري يسجل هدفا في المسابقة النمساوية الأكبر.
وبعدها، سجل سليم هدفا جديدا في ثاني مبارياته بالدوري النمساوي ضد أوستريا كلاجينفورت أمام 8 آلاف متفرج، في المباراة التي جرت يوم 21 أبريل/ نيسان 1963، وانتهت بنتيجة 2-1 لصالح "جراتسر إيه كيه". ثم أحرز هدفا ثالثا في مباراة ضد "واكر فيينا" بعد ذلك بـ7 أيام.
وبعد تسجيله 3 أهداف في أول 3 مباريات يلعبها في الدوري النمساوي، لم ينجح صالح في التسجيل في مباراة الفريق ضد رابيد فيينا العريق يوم 5 مايو/ أيار، ثم غاب عن مباراة "فرست فيينا إف سي" في الـ11 من نفس الشهر، وهي المباراة التي دشنت فترة غياب المايسترو للإصابة.
وغاب صالح سليم عن 4 من آخر ٦ مباريات لفريقه النمساوي في الدوري المحلي، لينتهي موسم الفريق في منتصف يونيو/ حزيران، باحتلاله المركز التاسع بين 14 فريقا.
ووفق رواية راينسيل، فإن سليم تعرض في هذه الفترة لسلسلة من الإصابات، ولم يلعب سوى عدد قليل من المباريات.
وبعد 4 أشهر فقط في النمسا، لعب خلالها 6 مباريات رسمية (540 دقيقة) وسجل 3 أهداف، قرر سليم العودة إلى مصر في خطوة فاجأت جميع من شاهدوا أداءه هناك، وسط شائعات منها أنه غادر الفريق بسبب فشل مفاوضات تجديد تعاقده، وأنه تلقى استدعاء للجيش المصري.
لكن الحقيقة أن سليم كان يشعر بكثير من الحنين لبلاده ولناديه الأصلي الأهلي، ولعائلته التي ظلت في القاهرة طوال فترة وجوده في النمسا.
وكان سليم قال في تصريحات سابقة عن سبب تركه النمسا: "كنت أشعر بالحنين للأهلي، فهو حياتي وبيتي الذي ارتبطت به منذ أن كنت في الـ14 من عمري، وفيه قابلت معلمي وقدوتي مختار التتش الذي علمني معنى الرياضة والانتماء للنادي"، مضيفا "حتى اليوم، لا أتقبل فكرة أن يخسر الأهلي مباراة".
أثر كبير
لكن رحلة المايسترو في النمسا، رغم قصرها أحدثت أثرا كبيرا خاصة في نادي شتورم جراتس، الغريم التقليدي لنادي "جراتسر إيه كيه"، فكثيرا ما اكتظت شوارع المدينة بجماهير الفريقين في مباريات الديربي، للاعتراف بالصدى الذي أحدثه اللاعب المصري.
وفي هذا الإطار، قالت تريزا جوتمان: "لعب 4 أشهر مع غريمنا جراتسر إيه كيه في الفترة بين فبراير ويونيو/ حزيران 1963، وأحدث أثرا كبيرا بسبب مهاراته الرفيعة".
وتابعت: "أحدث انتقال سليم للنمسا ضجة كبيرة وكان محور عناوين الصحف طوال فترة وجوده في جراتس، كان يلقب بـ"توني سيلر" الشرق بسبب أوجه الشبه الكبيرة بينه وبين بطل التزلج النمساوي الشهير".
بينما قال المؤرخ جورج شبيتلر لأرشيف جامعة فيينا الحكومية: "في بداية أبريل/ نيسان 1963 كان هناك حديث واحد في مدينة جراتس، وفي كل مكان تذهب إليه، سواء المصانع أو المكاتب والمقاهي، وكانت تدور نفس الأسئلة: كيف يلعب صالح سليم؟".
وتابع: "أحدث وصول اللاعب المصري إلى جراتس ضجة كبيرة، وقدم أداءات رفيعة نالت استحسان المشجعين والصحافة، في بداية فترة دخول اللاعبين الأجانب للدوري النمساوي".
ومثل ظهور سليم نقلة كبيرة في الدوري النمساوي الذي كان لاعبوه يعتمدون في ذلك الوقت على القوة البدنية والتدخلات العنيفة وسط غياب واضح للمهارة الفردية العالية.
ورغم مرور عقود طويلة على هذه الرحلة، فإن نادي "جراتسر إيه كيه" لم ينس صالح سليم، وكتب على صفحته على "فيسبوك" في عيد ميلاد المايسترو الـ87 في سبتمبر/أيلول 2017: "صالح لعب طوال مسيرته الرياضية لناديين فقط؛ ناديه الأصلي الأهلي، وجراتسر إيه كيه في ربيع عام ١٩٦٣، وأحرز ٣ أهداف في 6 مباريات بالدوري النمساوي".
وعن انتقال صالح من الأهلي إلى جراتسر إيه كيه، كتب النادي النمساوي: "كان هذا انتقالا ضخما ومثيرا للغاية في ذلك الوقت".