مدينة الألف مئذنة.. في حضرة مسجد الأقمر
القاهرة تزدان بالمساجد الأثرية التي يتعدى عمرها مئات السنين وخلال شهر رمضان تصحبكم"العين الإخبارية" في جولة بأشهر مساجد القاهرة
"حجارة بيضاء تشبه لون القمر"، هكذا عبّر أحمد بن علي المقريزي عن رؤيته لمسجد "الأقمر" أحد مساجد القاهرة الفاطمية، الذي يعد واحدًا من المساجد الأثرية ذات الطابع الفريد التي يلجأ إليها عشاق التراث والتاريخ.
أشار المقريزي، الذي يعد أحد أهم المؤرخين، والمعروف بـ "شيخ المؤرخين العرب"، إلى أنّ المسجد بُني مكان أحد الأديرة التي كانت تسمى بـ "بئر العظمة" لاحتوائها على عِظام بعض شهداء الأقباط.
أسس مسجد الأقمر الوزير المأمون بن البطايحي بأمر من الخليفة الآمر بأحكام الله أبي علي منصور، ليكون أول مسجد في القاهرة له واجهة مزخرفة من دلايات ونقوش خطّية محفورة في الحجر، ويعد أول مسجد تم تعديل تصميمه ليناسب شارع النحاسين بالقاهرة الفاطمية.
يقع المسجد في موقع متميز بالقرب من باب الفتوح للقادم من شارع الأزهر، وعلى امتداد شارع المعز لدين الله الفاطمي، ويبدو شامخا بواجهته البديعة التي تخطف أنظار المارة التي تتعلق بالنقوش المحفورة في الأحجار العتيقة.
يقول الدكتور عطية القوصي، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، لـ"العين الإخبارية" إنّ "مسجد الأقمر يعد من أول المساجد في الوطن العربي والعالم الإسلامي بواجهة ذات مسقط أفقي مائل على الشارع العام بزاوية مقدارها ٢١ درجة من الجانب الشمالي الغربي"، مؤكدًا أن "هذا العنصر المعماري الفريد ظهر لأول مرة في الأقمر، والهدف منه تعديل وضع القبة لاستواء صفوف المصلين عند الصلاة، وهو ما أخذت به غالبية المساجد التي تعرضت لظاهرة ميل القبة في العالم الإسلامي".
وتابع القوصي موضحا: "مساجد القاهرة الفاطمية عامة تمتاز بطابع فريد وبزخرفة إسلامية ممتازة، وجامع الأقمر يمتاز بالنقوش والكتابات الكوفية التي تزينه، إلى جانب أنه يعد المسجد الأول الذي يتم إضافة أسماء منشئيه على واجهته".
ويضيف القوصي في تصريحاته الخاصة، أنّ "واجهة المسجد تتزين وحدها بـ 7 أشكال لشموس مختلفة الأحجام، بجانب مدخل المسجد الذي له عتبة من الجرانيت بدخلة عرضها متران وعمقها ٦٠ سنتيمترا تقريبًا.
وأضاف أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة: "مسجد الأقمر مثله مثل المساجد التراثية التي تحتوي منطقة القاهرة الفاطمية على العديد منهم، وتلك المساجد يحبها المصريون ويعتبرونها تراثا إسلاميا مميزا، يذهبون إليها تارة للصلاة وتارة أخرى للاستمتاع بالتراث الإسلامي والحضارة المصرية القديمة".
من جانبه يقول المؤرخ الدكتور ماجد فرج في موسوعة "مصر المحروسة": "ترجع الشهرة للمسجد في واجهته الفريدة التي جمعت بين تناسب أجزائها وتناسقها، ووفرة زخارفها وتنوعها، وهذا الشكل شاع في المساجد والمدارس في العصر المملوكي".
وفي كتاب "مساجد القاهرة وآثارها" يقول الدكتور أحمد فكري، أستاذ الحضارة الإسلامية: "الظاهرة الأولى للزخرفة في واجهة مسجد الأقمر هي الإشعاعات الصادرة عن مركز يمثل الشمس في أغلب الأحيان، وإذا ما اتجهت الأنظار إلى الطاقة الكبرى التي تعلو الباب، سنلاحظ أنه يتوسطها في دائرة صغيرة نقش لاسم سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه".
وتابع فكري في كتابه: "الدائرة الصغيرة، تحيط بها ثلاث حلقات، نقش على الحلقة الوسطى بالخط الكوفي ما نصه قول الكريم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، وكأنما أريد بهذه الشموس المضيئة أن تعبر عن قوله تعالى (جعل الشمس ضياءً والقمر نورا)".
وحول تخطيط المسجد، يشير موقع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية إلى أن "تخطيط المسجد يقتصر على صحن مكشوف على هيئة مربع طول ضلعه ١٠ أمتار، تحيط به 4 أروقة أكبرها رواق القبة، عقودها محمولة على أعمدة رخامية فيما عدا أركان الصحن، واستعيض عن الأعمدة الرخامية بأكتاف مربعة، وهذه العود من النوع المحدب الذي لم يظهر بمصر إلا في أواخر العصر الفاطمي".
ويضيف الموقع عن المسجد: "على يسار الباب صفان، تتوج كل منهما أربع محطات من المقرنصات وبداخلهما تجويفان ينتهي كل منهما بفتحة، كما يعلو الصفين تجويفان صغيران عقداهما محمولان على أعمدة ملتصقة، وتعتبر المقرنصات التي نراها في هذه الواجهة أولى المحاولات في تزيين الواجهات بهذا النوع من الزخرف الذي يعتبر من أهم مميزات العمارة الإسلامية".
تجدر الإشارة إلى أنه قد تم ترميم المسجد أكثر من مرة، الأولى خلال فترة المماليك الظاهرية بأمر من الأمير الوزير المشير الأستادار، وتم تجديد صحن المسجد بإقامة بركة يصل إليها الماء من ساقية مرتفعة إلى من يتوضأ من صنابير نحاس، والثانية في أيام السلطان الظاهر برقوق عام ١٣٦٩ وشملت المنبر والمئدنة، وتم إثبات تاريخ هذا التجديد في لوحة تم تركيبها أعلى المحراب، والثالثة في عهد محمد علي باشا بإصدار أمر بتجديد الجامع كليا بعد أن ضربه الإهمال بشكل كلي.
وفي العصر الحديث تم تجديد المسجد مرة من قِبل لجنة حفظ الآثار العربية للحفاظ على زخارفه، والثانية من جانب المجلس الأعلى للآثار بعد بلوغ المباني المقابلة والمجاورة لارتفاع يحجب نظر المارة عن عظمة العمارة الإسلامية، ليتم إستصدار أمر بإزالة تلك المباني، لتتلألأ الحجارة البيضاء في سماء القاهرة الفاطمية.