اقتصاد البرسيم.. ما خفي كان أعظم في صراع السودان
الذهب الأخضر في السودان.. كنز دمره "الكيزان"
أن تدمن مخدرا يكون من السهل العلاج، أما أن تدمن الفساد فالعلاج يحتاج إلى ثورة حقيقية، هكذا حال السودان.
السودان البلد الذي ذاق المعاناة لثلاثة عقود من سيطرة الإخوان على كنوزه يدفع اليوم الثمن بلا هوادة، من هنا تفتح "العين الإخبارية" الملف المسكوت عنه في اقتصاد السودان البلد الجريح، الذي يمتلك ثروات هائلة، لكن فساد "الكيزان" بحسب روايات وتقارير دولية عدة أدى إلى انهيار ونهب لا ينقطع.
وبعيدا عن الذهب غير المستغل بالسودان، وفقدان حصة كبيرة من النفط بعد انفصال الجنوب، يمتلك السودان كنزا أشارت إليه دراسات عربية وغربية عديدة، لضرورة استثماره بمنهجية عاقلة، وهو التصنيع الزراعي وتحديدا "اقتصاد البرسيم".
أرقام اقتصاد البرسيم، سواء عالميا أو في السودان، تكشف باليقين أن المعادلة غير موزونة، إذ يقوم صاحب الأرض والحيوان باستيراد الألبان واللحوم من مصادر وبلدان لا تملك الاثنين معا.
نظرة واسعة على اقتصاد البرسيم
لم يعد اقتصاد البرسيم مقتصرا على مشروعات عائلية، لكنه تحول إلى مصدر دخل يدر ذهبا على شركات ودول حول العالم.
تشير بيانات للمنتدى الاقتصادي العالمية ومنظمة التجارة العالمية، إلى أن حجم سوق البرسيم العالمي بلغ 19.87 مليار دولار في عام 2020 وصعد إلى 21.7 مليار دولار في عام 2021.
بينما تشير التقديرات إلى أن حجم سوق البرسيم حول العالم سيتجاوز 35.20 مليار دولار في عام 2028 بمعدل نمو سنوي مركب نسبته 7.2% خلال الفترة 2021-2028.
وتعتبر آسيا والمحيط الهادئ موطنا لغالبية الحيوانات في العالم؛ وبالتالي لديها أكبر حصة في سوق البرسيم، وسط تنامي الطلب المتسارع خاصة في دول جنوب شرق آسيا.
وتمتلك منطقة آسيا والمحيط الهادئ الحصة السوقية الرئيسية بقيمة 9.65 مليار دولار أمريكي في عام 2020، وصعدت إلى 11 مليار دولار في عام 2021.
في عام 2020، والذي شهد تفشي فيروس كورونا، فإنه كذلك شهد حمائية تجارية طالت صادرات البرسيم من جانب الدول المنتجة إلى الأسواق، في محاولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ومنع تصاعد الأسعار.
وفعلا تم حظر صادرات البرسيم من دول في آسيا، إلى الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في العديد من البلدان، مما تسبب في مشكلات خطيرة بين العرض والطلب في تجارة الأعلاف الحيوانية.
ونظرا للتحديات اللوجستية وتذبذب سلاسل الإمدادات التي عانى منها الاقتصاد العالمي منذ عام 2020، خاصة لدى الصين، فقد كانت هناك أيضا فجوة كبيرة في واردات الصين، حيث تعطل إمداد الحاويات والسفن، وكذلك عبور بعض المكونات الدقيقة.
تعتمد العديد من اقتصادات جنوب شرق آسيا على العمال المهاجرين. بدأ هؤلاء العمال المهاجرون بالعودة إلى بلدانهم الأصلية بعد إخضاعهم لقواعد إغلاق صارمة، وتحطيم التوزيع، وأنظمة التوريد والتصنيع.
تصنيع العلف الحيواني
نتيجة لذلك، تُركت شركات تصنيع العلف الحيواني الكبيرة مع عدد أقل من الموظفين بشكل كبير، بسبب التحديات التي تمت مواجهتها في أثناء الوباء واستمرت معهم حتى مطلع عام 2022.
وتعتبر آسيا والمحيط الهادئ مركز إنتاج للثروة الحيوانية، وهي موطن لأعلى عدد من الماشية، إذ ينمو إنتاج الثروة الحيوانية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بشكل أسرع من أي قطاع فرعي زراعي آخر.
ويرجع ذلك أساسا إلى النمو الكبير في تربية الخنازير والماشية والدواجن، حيث تعد صناعة الثروة الحيوانية أهم جزء في التنمية الزراعية، وتساهم منتجات الثروة الحيوانية بحوالي 40% من إجمالي الإنتاج الزراعي في المبيعات العالمية.
إضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تؤدي الزيادة في استهلاك المنتجات الحيوانية بسبب النمو السكاني وزيادة مستويات المعيشة إلى تعزيز تبني المنتج. وهكذا فإن الارتفاع في استهلاك المنتجات الحيوانية من شأنه أن يغذي الحاجة إلى إنتاج عدد كافٍ من الحيوانات التي تتطلب علفا مغذيا.
وبناءً على نوع الحيوان، يشمل قطاع البرسيم تغطية لحيوانات رئيسية: الأبقار والخيول وغيرها، ويهيمن قطاع الماشية على السوق بسبب كثرة المواشي في جميع المناطق، فالمنطقة الآسيوية هي موطن لعدد أكبر من الماشية، والأغنام، والماعز، والخيول.
وبالتالي، مع وجود عدد كبير من الماشية في الهند والصين وبنغلاديش وباكستان، وعدد أكبر من الخيول في أفغانستان، هناك طلب كبير على منتجات البرسيم كعلف للحيوانات في هذه المنطقة، وبالتالي يتمتع اللاعبون في السوق بفرص نمو بارزة في هذه المنطقة.
ويهيمن قطاع القش على السوق العالمية في عام 2022، ومن المتوقع أن يحتفظ بهيمنته كأفضل مصادر البرسيم، فالتبن هو المنتج التقليدي المشهور بين المزارعين من جميع فئات الدخل.
وبينما يتحول المزارعون ذوو الدخل الأكبر نحو المكعبات والكريات، لا يزال المزارعون من البلدان النامية يفضلون التبن لتغذية الحيوانات، لأنهم لا يستطيعون تحمل تكلفة المكعبات والكريات.
برسيم السودان.. حصة مفقودة من الذهب الأخضر
أمام هذه الأرقام، فإن حصة سوقية مفقودة، وتتمثل في السودان، إذ تبلغ أعداد الماشية أكثر من 107 ملايين رأس، وتحتل الثروة الحيوانية بالسودان المرتبة الأولى على المستوى العربي والأفريقي، والسادسة على مستوى العالم.
من هذا الرقم، هناك ما لا يقل عن 40 مليون رأس من الضأن في مساحات شاسعة من المراعي الطبيعية، وموارد المياه، إلا أن حجم الصادرات مقارنة بهذه الأعداد زهيد، وفق البيانات الرسمية.
صحيح أن أكثر من 50% من مساحة السودان هي أراضٍ صالحة للزراعة، بل بالغة الخصوبة، إلا أن السودان مستورد رئيسي للبرسيم، لعدم قدرته على جلب استثمارات في إنتاج الأعلاف الحيوانية.
ومنذ عام 2013، تشهد الثروة الحيوانية في السودان نموا بمتوسط سنوي يبلغ 2.5%، إلا أن الأراضي الصالحة للرعي تتراجع بنسبة 1.3% سنويا، ما يفتح الباب أمام وجود حصة سوقية وإنتاجية مفقودة عنوانها السودان.
وفي السودان، ما يزيد على 175 مليون فدان (الفدان يساوي 4200 متر مربع) من الأراضي الصالحة للزراعة، وأكثر من 100 مليون رأس من الماشية.
كذلك، في السودان مساحات من الغابات والمناطق الصالحة للرعي، بواقع 52 مليون فدان، وأزيد من 400 مليار متر مكعبٍ معدل هطول الأمطار سنوياً.
ويُشكّل القطاع الزراعي ميداناً مفتوحاً لاستقطاب الأيدي العاملة والتخفيف من نسبة البطالة، فيما تمثل إيرادات القطاع الزراعي ما نسبته 48% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان، وفقاً لبياناتٍ رسميةٍ عام 2021.
لكن السودان اليوم يحتاج قبل الغذاء الخاص بالثروة الحيوانية، إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي للسكان، الذين يعيشون فقرا تتجاوز نسبته 30%، وتضخما بلغ في 2022، أكثر من 100% قبل أن يتراجع مؤخرا إلى 50%.
سماد أخضر وأزمة أسعار
يُظهر إنتاج البرسيم في السودان اتجاها متزايدا بمعدل 5% منذ عام 2012، وأحد العوامل الدافعة الرئيسية هو زيادة الاستثمارات في البلاد من قبل مختلف الشركات الأجنبية، ومع ذلك فإن السودان يستورد البذور لزراعة البرسيم من دول أخرى، مثل أستراليا والولايات المتحدة.
إذ يزرع البرسيم كمحصول علفي يتم استخدامه للرعي والتبن والسيلاج، فضلاً عن السماد الأخضر ومحصول الغطاء.
من المرجح أن تزداد واردات السودان من البرسيم الحجازي، ومن المتوقع أن تبلغ قيمة الواردات الإضافية المتوقعة البالغة 825 ألف طن متري بحوالي 250 مليون دولار سنويا بأسعار عام 2016.
يبلغ دعم استيراد البرسيم حاليا 59 دولارا للطن المتري، ومن المرجح أن يؤدي كل هذا إلى تحسين سيناريو التصدير للسودان، ومن المرجح أن يكون مربحا للشركات العاملة في إنتاج البرسيم.
زيادة الإنتاج
الخرطوم هي إحدى الولايات الرئيسية في السودان، حيث تبلغ نصيبها أكثر من 50% من إجمالي زراعة المحاصيل العلفية في البلاد وتحديدا البرسيم.
دفع هذا الطلب المرتفع رجال الأعمال المحليين والأجانب على نطاق واسع في عدة أجزاء من البلاد، لتغطية الطلب المتزايد على البرسيم في المنطقة، حيث أطلق المستثمرون مؤخرا مزارع واسعة النطاق حول الخرطوم وفي الشمال.
كذلك توجد في غرب أم درمان في الخرطوم مزرعة علف تبلغ مساحتها 10000 فدان والتي من المتوقع أن تحقق ربحا سنويا قدره 20 مليون دولار.
كما تقوم الأمطار بزراعة البرسيم في مزرعة كبيرة في شمال كردفان في الغرب الأوسط، باستخدام الري المحوري من المياه الجوفية.
مما سبق رصده بحسب بيانات رسمية سودانية، فإن للبرسيم في السودان أهمية أهملت على مدار 30 سنة، إذ يمتلك السودان بحسب بيانات الإحصاء الرسمية في السودان موارد اقتصادية هائلة، على سبيل المثال لا الحصر يمتلك السودان 55 مليون بقرة، وفي نفس الوقت يعاني شحا في منتجات الألبان.
في المقابل هولندا، البلد الأوروبي الصغير المساحة "قد لا تتعدى مساحة أصغر ولاية سودانية، تمتلك 5 ملايين بقرة، وتصدر منتجاتها إلى العالم.
من هنا وصف الدكتور محمد الرميحي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت، في مقال سابق بالشرق الأوسط، السودان بالبلد الغني بالموارد والفقير بالنخب الوطنية، ورغم كل الطنين والشعارات ترى بعض الدراسات أنه لو زُرعت أرض السودان القابلة للزراعة فقط بـ"البرسيم" لكان دخل السودان أكبر من دخل دول الخليج من النفط.
ويقول الدكتور أسامة أحمد، الخبير في الشؤون السودانية -في حديث لـ"العين الإخبارية"- إن ربما واحدة من التعقيدات التي أثرت سلبا على القطاع الاقتصادي في السودان؛ هي عدم العلم باقتصاد المعرفة والقيمة المضافة للمنتجات الزراعية الرديفة مثل الأعلاف ومن بينها البرسيم، الذي بإمكانه أن يحقق قيمة مالية ذات وزن اقتصادي ضخم، ويجذب استثمارات جديدة لتحسين الوضع المالي والاقتصادي في البلاد التي ظلت ضعيفة في هذا القطاع، بسبب رفض الاستثمارات العربية والأجنبية التي ترغب في الدخول إلى القطاع الزراعي وصناعة الأعلاف في السودان لزراعة البرسيم، بحجة أن زراعتها تستهلك المخزون الاستراتيجي للمياه الجوفية.
وأرجع أسامة، السبب في أن نظام البشير سادت فيه الرؤية السياسية بعيدا عن الفكر الاقتصادي، رغم أن العمل في إنتاج البرسيم يمكنه مضاهاة الموارد الطبيعية النفيسة. مع العلم أن السودان كان قد منح بعض المستثمرين الخليجيين والأتراك والصينيين خلال فترة حكم الرئيس البشير ملايين الأفدنة.
وكان الاتجاه السائد للدولة السودانية قبل الثورة يتمثّل في إلزام المستثمرين الأجانب والمحليين بزراعة نسبة من الأراضي الممنوحة لهم بمحاصيل أخرى غير الأعلاف خاصة البرسيم، بحسب الخبير السوداني، الذي أضاف أن التراخيص الممنوحة للمستثمرين تنص على الأعلاف، التي تعد أكبر الاستثمارات الخليجية والمحلية حجماً ومالاً في السودان، على أن يلتزم المستثمر بزراعة مساحات من الحبوب والمحاصيل الأخرى بجانب الأعلاف، وألا تقل نسبتها عن 30% من المساحة التي خصصها المستثمر للأعلاف.
وعن رؤيته لهذا القطاع الواعد في ظل التطورات الحالية في السودان، قال الدكتور أسامة أحمد -في حديثه لـ"العين الإخبارية"-: "ربما سيكون التوجه الجديد بعد إنهاء الاشتباكات بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع هو التفكير في عقلية اقتصاد المعرفة والقيمة المضافة من خلال مساحات زراعة الأعلاف بالبلاد"،
وتابع: "ويمكن أن ينشط هذا النوع من التعامل الاقتصادي في المرحلة المقبلة، ضمن السياسات الاقتصادية المقبلة والتركيز على طمأنة المستثمر الأجنبي، فهناك فرص كبيرة وواعدة للاستثمار في الأعلاف بالسودان، خصوصاً في الأراضي الصحراوية الشاسعة في مختلف الولايات السودانية، وذلك لزراعة مئات آلاف الأفدنة من الأراضي الصحراوية بالأعلاف والقمح بواسطة تقنيات ري حديثة تجعل من رش المياه على التربة كالأمطار الحقيقية، ما يزيد من نسبة خصوبتها، كما توفر هذه المشروعات فرص عمل لآلاف المواطنين في القرى والمناطق الصحراوية التي يقطنون بها، حيث لا تُشيّد آبار ومرافق خدمية، تغطي جميع المناطق المحيطة بالمشروعات.
ويرى الخبير السوداني أن البلاد من الممكن أن تبدأ -بعد إنهاء حالة الاحتراب الحالية- مع الجيل القادم برؤى اقتصادية مختلفة، وأن تحقق مفارقة تنقلها إلى مرحلة المواكبة الاقتصادية للعولمة.
الزراعة في أفريقيا
الحديث عن قدرات السودان المهدرة زراعيا تؤكده أيضا أرقام تصدير التصنيع الزراعي من الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادات وبلدان أفريقيا، إذ يعتمد معظم الاقتصاد الأفريقي على الإنتاج الزراعي، وتمثل الزراعة أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي في 8 دول أفريقية، بما في ذلك سيراليون ومالي وغينيا بيساو.
ويعمل أكثر من 70% من سكان 7 دول أفريقية في الزراعة، بما في ذلك دول النيجر وتشاد وأوغندا.
وتعد نيجيريا أكثر الدول في أفريقيا من حيث الإنتاج الزراعي بحجم إنتاج تبلغ قيمته 83.4 مليار دولار، ويمثل العاملون في القطاع الزراعي بها 36.62% من السكان، وتأتي كينيا في المركز الثاني بحجم إنتاج زراعي تبلغ قيمته 29.9 مليار دولار، ويمثل العاملون في قطاع الزراعة بها 57.45% من السكان.
وفي المركز الثالث تأتي مصر بحجم إنتاج زراعي تبلغ قيمته 27.6 مليار دولار، ويمثل العاملون في قطاع الزراعة بها 24.87% من السكان.
أما السودان ذو المساحات الشاسعة فيأتي في مركز متأخر، إذ يحتل المركز التاسع برصيد 12.7 مليار دولار فقط، وبنفس الرصيد يأتي في المركز الخامس بين الدول العربية بعد كل من مصر والجزائر والمملكة العربية السعودية والمغرب.