في نهاية نوفمبر 1998 وأثناء انعقاد المؤتمر السنوي لرابطة دراسات الشرق الأوسط في شيكاغو، جلست لتناول العشاء مع المستشرق المتخصص في السودان الدكتور جون فول John O. Voll، الأستاذ في جامعة جورج تاون بواشنطن، ودار الحديث عن السودان.
وتساءل أحد الحاضرين عن مدى جدوى المقاطعة التي أعلنها السودان ضد أمريكا؛ بعد أن ضرب الطيران الأمريكي مصنع الشفاء في الخرطوم، ودمره تماما في 20 أغسطس/آب 1998، انتقاما للهجوم على السفارة الأمريكية في دار السلام عاصمة تنزانيا في 7 أغسطس/آب من العام نفسه، لأن صاحب مصنع الشفاء كان صديقا لأسامة بن لادن الذي كانت حكومة الإخوان تستضيفه في ذلك الوقت. وعلى أثر الضربة الأمريكية لمصنع الشفاء أعلنت حكومة السودان مقاطعة أمريكا اقتصاديا.
وكان رد الدكتور جون فول على زميلنا ساخرا جدا، مفاده أن السودان يتحكم في معظم الصناعات الأمريكية، وأن تلك المقاطعة كانت من أكبر التحديات التي واجهت الولايات المتحدة.
وأخذ يسرد قصة هذه المقاطعة فقال: في ذلك اليوم أيقظني اتصال تليفوني بعد منتصف الليل بأكثر من ساعتين، وكان من كارتل الصمغ العربي (والكارتل هو اتحاد أو رابطة لمستوردي أو مصدري أي سلعة من السلع مثل أوبك في مجال البترول).
وأكمل جون فول قائلا: حيث كنت أعمل مستشارا لهذا الكارتل، وطلبوا مني القدوم إلى شيكاغو على الفور، وبالفعل سافرت فورا إلى هناك، وأخبروني أنه ينبغي أن أجد طريقة لاستمرار تدفق الصمغ العربي إلى الولايات المتحدة، لأن هناك 1100 صناعة في أمريكا تعتمد على الصمغ العربي، أي ألف ومائة سلعة، منها الأدوية، ومستحضرات التجميل، والمشروبات الغازية، والحلويات والشكولاتة، ومواد الصباغة بجميع أنواعها.. إلخ.
وكان رد الدكتور جون فول الخبير المتمكن من دقائق شؤون السودان، أن الصمغ العربي موجود في دارفور وكردفان، أي في غرب السودان المجاور لدولة تشاد، والرئيس التشادي – في ذلك الوقت – كان إدريس ديبي وهو من قبيلة الزغاوة التي تعيش على جانبي الحدود؛ نصفها في تشاد، والنصف الآخر في دارفور، ولذلك لا بد من أن تتواصل الحكومة الأمريكية مع الرئيس التشادي، ويتم تجهيز مطار حربي لطائرات النقل العسكري في أقرب نقطة من الأراضي التشادية لمنطقة دارفور، ومن خلال علاقات الرئيس إدريس ديبي؛ يتم التواصل مع شيوخ القبائل والسلاطين والعمد، والناشطين في دارفور لنقل الصمغ العربي على ظهور الحمير والجمال إلى داخل الأراضي التشادية، ثم تنقل بالسيارات إلى المطار الحربي الذي تم إنشاؤه لهذا الغرض.
وبالفعل تم تنفيذ هذه الخطة في أيام قليلة جداً، ولم يتوقف تصدير الصمغ العربي إلى الولايات المتحدة، ولم يتوقف أي من المصانع الأمريكية التي تنتج ألفًا ومائة سلعة مختلفة، وبالتأكيد هي آلاف المصانع، وكان الحل العبقري أن تحقق أمريكا ومصانعها مصالحها ولو على ظهور الحمير.
أبهرتني الحكاية وقتها، وتذكرتها، وأنا أتجرع مرارات الألم على أحوال أمتنا التي لا تكاد تنطفئ حرائقها في بقعة حتى تشتعل في أخرى، ولا تكاد عذابات البسطاء المجبرين على ترك بيوتهم والسير في التيه الكبير تهدأ في مكان، حتى تتدفق سيول النازحين في مكان آخر. وخيرات أرضنا تكفي الجميع، وتستوعب الجميع إذا ما توجهنا للعمل والإنتاج، وكان شعارنا الفأس وليس البندقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة