ليس من السهولة البدء في مسار محدد تجاه التعامل مع التطورات السودانية في ظل تعقد المشهد الراهن سياسيا وعسكريا، وتصميم كل طرف على الاستمرار في نهجه.
إضافة إلى ذلك، غياب القوى الضاغطة التي قد يدفع الطرفين إلى العودة، وبدء استئناف مسار سياسي جديد، أو ترميم ما هو قائم، خاصة في ظل حالة الفوضى التي بدأت تعلن عن نفسها في كل قطاعات الدولة، مما سيؤدي إلى الذهاب لخيارات صفرية ما لم يتم تطويق عناصر الخلاف الراهن بمقاربة أكثر واقعية تراعي ما جرى في المواجهات الراهنة، والمرشحة للاستمرار.
وهناك ثمة ملاحظات على المشهد الراهن، أولاً: غياب الإرادة الدولية للحل في ظل تعقيدات الداخل السوداني، والمخاوف المعلنة، والمستترة من الذهاب إلى تقسيم السودان، خاصة مع تربص القوى الداخلية من حركات مسلحة لم تنضوِ في العملية السياسية منذ بدايتها، وتتأهب إلى البدائل، وإعادة بناء شراكات جديدة مع طرفي الصراع.
يأتي ذلك، فيما تتداخل الحسابات وتتنامى المواجهات بدليل تجدد النزاع في دارفور، وعدم وجود نقطة توازن يتم البدء بها، خاصة أن أطراف المعادلة السياسية - أو المكون السياسي - ليس لديها الرؤية الشاملة، ولا تزال قابعة عند خياراتها في انتظار ما ستمضي إليه الأمور لبناء شراكتها، وانخراطها في المشهد، الأمر الذي يؤكد أن الذهاب إلى توافقات سياسية في ظل هذا الوضع مستبعد على الأقل في المدى القصير.
إن حضور مجلس الأمن في الملف السوداني لن يحسمه الذهاب إلى خيارات من نوعية وقف إطلاق النار، والبدء بمشهد سياسي غائب رغم الهدن التي يتم اختراقها، وسيغيب لاعتبارات أساسية، ومتعلقة بما يلي من خطوات؛ بينها: التعامل مع الأطراف المنخرطة في إدارة البحث عن حل، وأهمها الآلية الثلاثية والرباعية الدولية والمفوضية الأفريقية، وتحركات الجامعة العربية، والدول الوازنة في المحيطين العربي والأفريقي.
كل هذه الأطراف، وغيرها ستتداخل في توقيت محدد إذا لمحت بالفعل تجاوبا، خاصة أن الدول الوسيطة قد تلعب دورا عند الضرورة للحفاظ على مصالحها الكبرى المتشابكة في السودان، وتتخوف من الذهاب إلى حالة من الفوضى، التي لن تقتصر على السودان فقط، بل ستمتد إلى دول الجوار الإقليمي، ومنه إلى مناطق أخرى، في ظل الرهانات الموضوعة بتحركات لعناصر إرهابية، وتدفق لاجئين وموجة نزوح متعدد الاتجاهات.
الملاحظة الثانية: لا تزال الولايات المتحدة تراقب المشهد عن قرب، لكن ما يشير إلى وجود حسابات متداخلة ليس التضارب في المصالح بين دول كبرى مثل روسيا التي تتحرك عبر أذرعها، وعلى رأسها شركة فاغنر العاملة في الجنوب الأفريقي منذ سنوات، ولديها وجودها الكبير للحفاظ على مصالح روسيا العليا، كما جرى في ليبيا والسودان، وإنما في منطقة القرن الأفريقي.
إن روسيا تسعى أيضا لإنشاء نقطة ارتكاز ممثلة في قاعدة عسكرية مقيمة تعمل لخدمة أهدافها العاجلة مقابل تطلعات صينية ملحة، وترقب أمريكي للعمل في ظل القيادة العليا للمنظمة الأمريكية في أفريقيا، وهي منظومة معقدة تعتمد فيها الولايات المتحدة على وسائل ضغط، وتحرك استراتيجي، وتكتيكي معا.
يشير ذلك إلى أن المصالح العليا للولايات المتحدة لن تتغير، وهي التي دفعت الولايات المتحدة لإعادة تعويم النظام السوداني، ورفع اسمه من قوائم الإرهاب، والدفع بإعادة بناء شراكة أمريكية سودانية على أسس جديدة ارتكزت على مصالح اقتصادية واستراتيجية بحتة.
أما في الوقت الراهن، فإن أي مسار للتحرك الأمريكي سيرتبط في المقام الأول بالعمل وفق الرباعية الدولية، أو من خلال الآلية الثلاثية التي ستتم إدارتها على أسس مختلفة، ومن خلال مقاربة الواقع الراهن ولما ستمضي إليها الخيارات القائمة والمحتملة، وهو ما تدركه الولايات المتحدة بل وروسيا والصين معا في ظل المصالح المتجددة لأطراف الصراع الداخلي وشبكة تحالفاته الدولية.
الملاحظة الثالثة: قد تطرح القوى الإقليمية سواء من دول الجوار مثل: مصر وجنوب السودان ودول القرن الأفريقي، إضافة إلى إسرائيل وتركيا، رؤى في التعامل، عبر ما يعرف بالوساطة عن بعد، لتشمل هذه الدول وغيرها.
إلا أن طرفي الصراع لن يقبلا بالانخراط مع طرف قد لا يملك ممارسة دور بارز أو متقدم، أو يقدم الضمانات والتطمينات، وهو ما قد يعرقل بالفعل أي مسار للتقابل، وقد يطرح تصورات متعددة تبقى في إطارها النظري.
إن طرفي الصراع في حاجة بالفعل إلى وسيط دولي، أو عدة وسطاء على غرار الآلية الثلاثية، أو الرباعية مما قد يعطي الضمانات لكل طرف، لكن لوحظ خلال الأيام الأخيرة أن الطرفين لا يريدان العمل على خيار محدد، بل هناك تصميم على الخيار العسكري في ظل تقييمات من المؤكد أن أجهزة الاستخبارات الدولية تملكها، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة.
تتلخص هذه التقييمات في أن استتاب الأمور لن يتم في التوقيت الراهن، وأن المضي في الخيار العسكري سيظل مطروحا لبعض الوقت، ولن يحسم في الأجل القصير أو المتوسط؛ بدليل عمليات الإجلاء للرعايا وإغلاق السفارات، والمقار الدولية، والشركات العالمية، في إشارة أولية إلى أن عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه مستبعد في الوقت الراهن، ومن ثم فإن ما سيجري من أطروحات دولية – أيًا كانت مرجعياتها – سيكون مرتبطا بما ستنتهي، أو على الأقل ما تشير إليه التطورات العسكرية على الأرض.
يرتبط ذلك بخيارات متعددة؛ الأمر الذي سيدفع للتخوف من أي سيناريوهات تمضي في هذا الإطار، أو ذاك من الحسابات الضيقة، وفي ظل انحسار أي أطروحات، أو مبادرات من الداخل، بصرف النظر عما تطرحه قوى الحرية والتغيير التي تعمل في مساحات محددة، وفي ظل نتائج ما سيجري من تطورات ميدانية متعددة المسارات، التي لن تقتصر على مساحة واحدة من التعاملات العسكرية، والتي لا تزال لها اليد الطولى حتى الآن.
الملاحظة الرابعة: تحسين شروط التفاوض – عندما يحين موعده – سيرتبط بالعديد من التطورات، خاصة أن التجارب العربية أو الأفريقية باستثناء حالات محددة لم تستقر بسهولة، واستمرت في حالة من عدم الاستقرار، ما يشبه الحالة السودانية بالحالة الليبية، وما آلت إليه الأوضاع في ظل تعايش دولي مع البيئة الراهنة في ليبيا وعدم الاتجاه للحل السلمي، وفي ظل التصعيد العسكري، خاصة أن خبرات الدولة السودانية مع ظاهرة الانقلابات العسكرية كبيرة، وبها كثير من الدروس والعظات.
فالمسألة لم تكن الاتجاه في تمرير العملية السياسية، وإتمام توافقات بين المكونين المدني والعسكري، والذهاب إلى خريطة سياسية واحدة، خاصة أن بعض البنود الرئيسة كانت محل تجاذب وتباين، على رأسها دمج قوات الدعم السريع، وما بين مقترح الـ24 شهرا والـ10 سنوات كان التأكيد على عدم وجود البدائل العملية والمتاحة في ظل صراع القيادات العسكرية على الجانبين ووجود تيار قوي، ونافذ في القوات المسلحة استبعد ذلك تماما، وكانت لديه تحفظات على ما سيجري، وفي ظل وجود عناصر جماعة الإخوان ليس في القوات المسلحة بل في مفاصل الدولة، بالإضافة إلى رموز النظام السابق، الذين لديهم مصالحهم التي يتمسكون بها، وسيحاربون من أجل الحفاظ عليها.
إن تعدد المرجعيات الراهنة وتشعب مسارات الحل النظري لن يخدما ما ستؤدي إليه الأوضاع في السودان، بل سيدفعان في اتجاهات عدة وفق مسار كل خيار مطروح سواء كان عسكريا أم سياسيا، خاصة أن الدول صاحبة المصالح الكبيرة في الداخل السوداني متعددة، وتعمل وفق استراتيجيات متعارضة مما يعقد التوصل إلى حل في ظل تصميم كل طرف على دفع الآخر إلى حافة الهاوية .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة