مسودة الدستور الجزائري الجديد.. بين التفاؤل وخيبة الأمل
الجزائريون يثمنون 9 مواد دستورية وينتقدون 7 أخرى بينها مهمات الجيش الخارجية ومناصب المسؤولية لمزدوجي الجنسية.
مباشرة بعد الكشف عن مسودة الدستور، الخميس الماضي، أثار المشروع التمهيدي لتعديله الذي أعلنت عنه الرئاسة الجزائرية، نقاشاً واسعاً وغير مسبوق بين الجزائريين، وانقسمت آرائهم حول عدد من المواد الدستورية المقترحة.
ووزعت رئاسة الجمهورية في الجزائر مسودة الدستور على الشخصيات السياسية والأكاديمية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والمنظمات الطلابية، تضمنت 73 تعديلاً لـ"نظام شبه رئاسي".
- نائب للرئيس ومهام خارجية للجيش.. أبرز مقترحات تعديل دستور الجزائر
- الجزائر تناقش دستورها الجديد الأسبوع المقبل
وشدد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منذ ترشحه لانتخابات الرئاسة على أن تعديل الدستور هو "أولوية ولايته الرئاسية" وتعهد بإنهاء الحكم الفردي والقطيعة مع ممارسات وسياسات نظام سلفه المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، وربَط خروج بلاده من إرث نظامه بـ"سد الفراغات القانونية والدستورية".
3 جبهات متباينة
غير أن الإفصاح عن محتوى التعديلات المقترحة على دستور البلاد، قسم الجزائريين إلى "3 جبهات" متباينة في الآراء حول عدد من المواد الدستورية.
جبهة سارعت إلى "الترحيب" بالإفراج عن مسودة الدستور بعد أن أجلتها جائحة كورونا، وعدت ما فيها "مؤشراً حقيقياً على بداية التغيير الجذري الذي يوصل البلاد إلى الجمهورية الجديدة" التي نادى بها الحراك الشعبي وتبناها الرئيس الجزائري في برنامجه الرئاسي.
وجبهة ثانية عبرت عن "خيبة أملها" من محتوى المشروع التمهيدي للدستور، ووصفت بعضاً من بنوده بـ"المفخخة والتجاوز الخطر والامتداد للنظام السابق والتنازل المجاني والغامض عن مبادئ لم يجرؤ أي رئيس جزائري على طرحها".
أما الفئة الثالثة فدعت إلى "عدم تهويل" النقائص الموجودة في المسودة، وأكدت على "إيجابية" عرضها للنقاش والتعديل في سابقة لم تحدث مع بقية رؤساء الجزائر خلال التعديلات الدستورية، وطالبت بـ"نقاش هادئ على وثيقة غير نهائية يضمن الخروج بدستور يحظى بقبول شعبي واسع".
9 نقاط إيجابية
وأكد خبيران جزائريان في تصريحات منفصلة لـ"العين الإخبارية" على أن الكشف عن المشروع التمهيدي للتعديل الدستوري حمل في طياته الكثير من المؤشرات الإيجابية وعلى "وجود إرادة سياسية في إحداث التغيير الجذري" في مجالات الحقوق الأساسية والحريات العامة والفصل بين السلطات الثلاث وتكريس استقلالية القضاء والحرب على الفساد.
وعدّد الخبيران جملة من النقاط الإيجابية، أبرزها طرح المسودة للنقاش الشعبي في سابقة هي الأولى من نوعها، وهو ما أشار له الرئيس الجزائري في وقت سابق عندما تحدث عن رغبته في الخروج بـ"دستور توافقي يمثل مطالب حراك 22 فبراير/شباط 2019 وجميع الجزائريين".
ومن أبرز تلك التعديلات المقترحة وفق مسودة الدستور التي حصلت "العين الإخبارية" على نسخة منها والمكونة من 77 صفحة و7 فصول و240 مادة دستورية: "تقليص صلاحيات رئيس البلاد"، وإعادة العمل بنظام رئيس الحكومة وتوسيع صلاحياته وصلاحيات البرلمان والقضاء، وإنشاء محكمة دستورية تراقب قرارات السلطات الثلاث خاصة في المراحل الاستثنائية، وتعيين نائب لرئيس الجمهورية لـ"تفادي سيناريو فراغ" استقالة بوتفليقة العام الماضي و"الدخول في إشكالية دستورية قادمة".
بالإضافة إلى تجريم التعذيب والاتجار بالبشر، وحماية المرأة من كل أشكال العنف، والحق في التعويض عن التوقيف والحبس المؤقت، وإقرار مبدأ التصريح لممارسة حرية الاجتماع والتظاهر، ودسترة حرية الصحافة بكل أشكالها ومنع الرقابة القبلية عليها، بالإضافة إلى "دسترة الحرب على الفساد" بمحور مستقل للمرة الأولى.
وكذا اقتراح دسترة الحراك الشعبي لـ 22 فبراير 2019 في إطار ديباجة الدستور، و حظر خطاب الكراهية والتمييز.
وعلق المحلل السياسي الدكتور حسين قادري على بعض المواد الواردة بأن "هناك مؤشرات للحد من صلاحيات الرئيس التي كانت في دستور 2016" وتوقع أن تشهد المسودة إثراء كبيراً، مشيراً في السياق إلى أن المسودة ما هي إلا "أرضية سياسية لكنها لا تريد أن تحشر نفسها في حسم مواضيع حساسة قد تحسب على الرئيس الذي أراد أن يُرسي دستورا يمكنه من إحداث الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي ينوي القيام بها".
وأوضح في تصريح لـ"العين الإخبارية" أن عملية التغيير "يجب أن تحترم المنظومة العامة الإقليمية والدولية التي يأتي فيها أي تغيير، والتغيير المقبول يجب أن يكون تدريجياً، من خلال تحديد صلاحيات الرئيس وإعطاء أخرى لرئيس الحكومة، وإلغاء التعيينات في المؤسسات المنتخبة".
كما توقع "إلغاء مجلس الأمة" الذي يعتبر الغرفة العليا للبرلمان الجزائري بعد النقاش، مرجعاً ذلك إلى اقتراح منصب نائب لرئيس الجمهورية "الذي فرضه الواقع" وحدد له صلاحية تولي رئاسة البلاد مؤقتاً في الحالات الاستثنائية كما كان الحال مع رئيس مجلس الأمة.
وأوضح بأن إنشاء منصب نائب للرئيس وتوسيع صلاحيات الحكومة والبرلمان يهدف إلى "تعزيز مكانة المؤسسات بشكل يمكنها العمل دون ضغط ودون تبعية لرئيس الجمهورية بعد أن يحدد الدستور الصلاحيات وعلاقة العمل التي يكون فيها رئيس الحكومة مسؤولاً أمام البرلمان".
استبيان شعبي
ونوه بأن "طرح الوثيقة للمرة الأولى في الجزائر بحد ذاته أمر إيجابي جداً، وأعتقد أن السلطة أرادت أن تعطي للشعب للمرة الأولى فرصة التعبير لكي تعي حقيقة هذا الشعب في ماذا يريد وإلى أن يريد أن يصل، وهل يشارك في السياسة أم لا وهل تعنيه الخصوصيات أم لا، وطرح المسودة في اعتقادي هو استبيان لذلك، وللدولة كامل الإمكانيات للخروج بدستور مثالي، لكنها فرصة تريد من خلالها دراسة آراء الشعب بعد الحراك الشعبي".
الجيش.. "خط أحمر"
في مقابل ذلك، أثارت مواد دستورية مقترحة "رفضاً شعبيا واسعاً"، كان من أبرزها "اقتراح تغيير عقيدة الجيش فيما يتعلق بالمشاركات العسكرية خارج البلاد" للمرة الأولى منذ آخر مشاركة للجيش الجزائري في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973.
وأضاف المشرع فقرة ثانية في المادة 31 من الدستور تنص على أنه "يمكن للجزائر في إطار الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية وفي ظل الامتثال التام لمبادئها وأهدافها أن تشارك في عمليات حفظ واستعادة السلام".
بالإضافة إلى المادة 91 التي ورد فيها أن "رئيس الجمهورية الذي يتولى مسؤولية الدفاع الوطني يقرر إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج بعد مصادقة البرلمان بأغلبية الثلثين من أعضائه"، وهو ما يعني رغبة تبون في الاحتفاظ بمنصب وزير الدفاع على غرار سلفه بوتفليقة.
وحذر خبراء أمنيون مما وصفوه تداعيات المادتين، مبررين ذلك بأن الجزائر "ستكون مرغمة على قبول إنشاء قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها"، بالإضافة إلى خطورة "تورط الجيش الجزائري في مستنقعات حروب إقليمية أو قيادة حروب بالوكالة" وهو ما يزيد – بحسبهم – من استنزافه مادياً وبشرياً.
درء مخاطر الإرهاب
وفسر الخبير الأمني أحمد كروش إدراج مقترح بهذا الشكل إلى ما يسمى "بتداعيات الربيع العربي الذي فرض أخطار جمة على الحدود الجزائرية خاصة الشرقية والجنوبية والتدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية لدول الجوار".
وأضاف في تصريح لـ"العين الإخبارية" أن هذه المسألة طرحها الكثير من المثقفين من خلال الدعوة لتغيير عقيدة الجيش "لدرء الأخطار المحيطة بالبلاد"، وهوّن في المقابل من خطوة المادة "مادامت المسودة مطروحة للنقاش وليس قراراً نهائياً حتى تخضع لمناقشة وافية من جميع الأطراف".
وكشف عن أن الجزائر تشارك من قبل بإرسال ضباط ملاحظين في إطار بعثات الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في أفريقيا تحت الفصل السادس، غير أنه نوه إلى أن خطورة المادتين تكمن في مصطلح "استعادة السلام سواء في الإطار الإقليمي والدولي وهو ما يعني تدخل الجزائر بقوة مسلحة وفق البند السابع للأمم المتحدة".
ومع ذلك، اعتبر أن تقييد مهمات الجيش الخارجية بموافقة البرلمان لن يكون "إلا إذا كان أمن الجزائر مهدداً فعلاً ولدرء المخاطر خارج الحدود والتي ستتركز على محاربة الإرهاب وستتلخص في اتفاقيات دفاع مشترك مع بعض دول الجوار".
ضرورة إقليمية ودولية
غير أن الأكاديمي حسين قادري يرى بأنه يتوجب "النظر إلى مكانة الجزائر الدولية والإقليمية والتحديات التي تواجهها حالياً، لأنه لا يوجد في المستقبل ما يسمى بالحدود المغلقة، والمادتان لا تتبنيان التدخل العسكري خارجياً، لكنها تهدف إلى مواجهة بعض المواقف أو التحديات التي قد تُفرض على الجزائر".
وتابع قائلاً: "الدستور القادم يجب أن يُخرج الجزائر من وضعيات الواقع سواء الداخلية أو حتى الخارجية من خلال معالجة القضايا الطارئة، كما أنه لا يمكن إرسال قوات عسكرية إلى الخارج دون رأي من برلمان قوي منتخب شعبي ولا نعتقد أنه سيسمح بإرسال أبناءه إلى الخارج بما يتناقض مع أمن الجزائر".
وأضاف بأنه "لا يمكن للجزائر أن تبقى قوة إقليمية وتبقى منعزلة إقليمياً في الوقت نفسه"، وألمح إلى أن خطوة احتمال إرسال قوات من الجيش في مهمات خارجية مرتبط بـ"التدخل العسكري التركي في ليبيا رغم بعد المسافة الجغرافية بين البلدين".
مشيراً إلى أن "فلسفة عدم التدخل أعيد تعريفها دون تغيير في عقيدة الجيش، فقد فرّق بين عدم التدخل وعدم القدرة على الدفاع عن المصالح بسبب عوائق دستورية، والجزائر باعتبارها جزء من العالم فلها مسؤوليتها في الأمن العالمي والأفريقي".
"اللاءات السبع"
كما أثارت مواد دستورية أخرى "استهجاناً شعبياً"، عدها خبراء قانونيون بـ"المواد المفخخة"، من بينها "حذف المادة التي تستوجب التمتع بالجنسية الجزائرية لتولي المناصب السامية في الدولة"، في وقت لازالت أسماء وزراء من عهد بوتفليقة من "مزدوجي الجنسية" يتابعون في قضايا فساد هزت البلاد، بينهم وزيرا الصناعة الأسبق عبد السلام بوشوارب (الجنسية الفرنسية) والطاقة شكيب خليل (الجنسية الأمريكية).
و"حماية ممارسة العبادات دون تمييز"، و"دسترة مبدأ عدم جواز نقل القاضي والضمانات المرتبطة به"، وكذا إبعاد وزير العدل والنائب العام لدى المحكمة العليا عن تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء.
إضافة إلى "إمكانية تخصيص بعض البلديات بنظام خاص"، حيث حذر مراقبون من أن يكون هذا البند "خلفية لتقسيم البلاد على أساس فيدرالي" وفق تعبيرهم.
كما انتقد كثير من المتابعين مادة تتحدث عن "الحق في سرية المراسلات والاتصالات الخاصة في أي شكل كانت"، وبرروا ذلك بأن "أي أدلة لمراسلات تقدمها الأجهزة الأمنية تثبت التخابر أو الفساد أو التجسس تصبح معلومة لا قيمة لها".
ومن أكثر المقترحات القانونية التي أثارت الكثير من الجدل في الجزائر مسألة "إدراج اللغة الأمازيغية ضمن الأحكام التي لا تخضع للتعديل الدستوري"، وتباينت آرائهم بين "المثمنة" والمنتقدة لما اعتبروه "فرض لغة ثانية صماء دون إعادة الاعتبار للغة العربية الرسمية".
وتوقع مراقبون أن يؤدي الجدل الحاصل حول مسألتي "المهام الخارجية للجيش وترسيم الأمازيغية" إلى دعوة الرئيس الجزائري لتنظيم "استفتاءين شعبيين" حول أكثر المسائل حساسية في الساحة السياسية الجزائرية.
ومن بين "النقاط الغامضة" وفق خبراء قانونيين "عدم توضيح المسودة طبيعة نظام الحكم المقبل"، معتبرين أنه مزيج بين الرئاسي والجمهوري والبرلماني، رغم أن تبون كشف بأن بلاده تتجه "لنظام شبه رئاسي".
نقاش طبيعي
وأشار أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر الدكتور حسين قادري بأن النقاش الحاصل في الجزائر "متوقع وطبيعي كونه من إفرازات التحول الحاصل، كما لا زالنا نعيش فلسفة ومنطق الهبة الشعبية لـ22 فبراير/شباط 2019، وجزء كبير من الجزائريين لازال غير مقتنع بما هو حاصل من إصلاحات وسياسات".
مضيفاً أنه "إذا أردنا أن ندخل في بعض التفاصيل والمقترحات، هناك بعض الانتقادات الموجهة لبعض صلاحيات رئيس الجمهورية، ويرى الطرف المنتقد أنه لحد الآن لازال رئيس الجهورية يمتلك صلاحيات واسعة من منطلق مسودة الدستور المقترح بينها تعيين نائب له بدل انتخابه".
وتحدث الأكاديمي عن الانتقادات التي عبر عنها الجزائريون عبر مواقع التواصل والتي اعتبر أنها "متسرعة وكأن الاقتراحات نهائية"، مشيراً إلى أن الأمر يتطلب "نقاشاً هادئاً وملتزماً من قبل الطبقة السياسية والمختصين والأكاديميين، والكلمة الأخيرة للشعب الجزائري في الاستفتاء الشعبي".
"بالونات اختبار"
وقدم المحلل السياسي فرضيتين لوضع المشرع المواد التي أثارت الجدل، مشيراً إلى أن الأولى "ربما أراد من خلالها استفزاز الشعب لدفعه أكثر على المشاركة في النقاش"، أما الثانية فهي المتعلقة بمسألة الهوية.
وأوضح بأن "جهات تتهم الرئيس تبون بالتراجع عن ترسيم اللغة الأمازيغية، لذلك تقرر تسجيل نقطة إيجابية لضمان الاستقرار تفيد بعدم التراجع، وفهم كثير من الجزائريين لمسألة الأمازيغية مبهم لكن للسلطة بُعدٌ آخر متعلق بأمن البلاد".