هل تطيح روسيا بـ"عرش النفوذ" الفرنسي بالجزائر؟
هل خرجت الجزائر من دائرة النفوذ الفرنسي؟ ومن هي القوى الكبرى التي "تملك جرأة" إسقاط باريس من عرش نفوذها بالجزائر؟
سؤال حاول معهد أمريكي الإجابة عنه من خلال ورقة بحثية أشارت إلى تبدل "متغيرات وثوابت" معادلة النفوذ بمنطقتي المغرب العربي وأفريقيا بعد دخول الدب الروسي "طرفاً قوياً" في الخارطة الجيوسياسية لما يسمى بـ"الحديقة الخلفية" لباريس منذ أكثر من قرن كامل.
- الجزائر وروسيا.. "أولوية" دبلوماسية وعسكرية "تدعمها" أسلحة الردع
- 18 مليار دولار سنويا.. ثمن خروج فرنسا من "جنة الجزائر"
وأشار مركز الأبحاث الأمريكي "المجلس الأطلسي"، في تحقيق بحثي معمق، إلى تراجع النفوذ الفرنسي بمنطقتي المغرب العربي وأفريقيا عموماً وخاصة الجزائر.
وأوضحت الوثيقة البحثية أن الجزائر خرجت من دائرة النفوذ الفرنسي خلال العقدين الأخيرين أي منذ عام 2000 بالتزامن مع تولي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة مقاليد الحكم بالجزائر منتصف 1999.
التقرير الأمريكي لفت إلى "الدور الروسي" في إسقاط باريس من عرش نفوذها بالجزائر، إلا أن أنه ارتكز في ذلك على "البعد العسكري".
ورأى تقرير "المجلس الأطلسي" أن بروز النفوذ الروسي بالجزائر يعود بالأساس إلى زيادة مشتريات الجزائر من الأسلحة الروسية خلال الفترة ذاتها.
وأوضح أن الجزائر "كانت دولة تقع تحت النفوذ الفرنسي وتحولت لتصبح منطقة نفوذ روسي بسبب العلاقات العسكرية التي تربط البلدين، خصوصاً أن الجزائر تعتبر من أكبر زبائن الأسلحة الروسية في العالم".
و"المجلس الأطلسي"؛ معهد أمريكي تأسس عام 1961 ويتخذ من العاصمة الأمريكية واشنطن مقرا له، ويعتبر مؤسسة بحثية غير حكومية مؤثرة في رسم معالم السياسة الخارجية الأمريكية، وتعتمد في دراساتها على أبحاث سياسيين ورجال أعمال ومفكرين من جميع أنحاء العالم، كما توفر لهم بيانات إحصائية في الشؤون الدولية.
وتهتم دراسات المعهد الأمريكي بالبرامج الوظيفية المرتبطة بالأمن الدولي والازدهار الاقتصادي، ويملك عشرات المكاتب الإقليمية عبر العالم.
تحذيرات أمريكية
في السياق ذاته، حذر تقرير أمريكي آخر مما سمّاه "خطر النفوذ الروسي حول العالم" وكانت الجزائر من بين الدول التي ركز عليها التقرير، وطالب الإدارة الأمريكية الجديدة بـ"مد يدها" لهذا البلد الأفريقي.
ونشر موقع "جلوبل ريسك إنسايت" دراسة بحثية عن "المخاطر التي تواجه الإدارة الأمريكية الجديدة"، ودعاها لأن "تستغل فرصة تصويب السياسة الأمريكية الخارجية ومسح آثار إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في أفريقيا ومد يدها للجزائر".
التقرير حمل انتقادات أيضا للسياسة الخارجية الأمريكية وتحديدا في ملف إدارتها لـ"المواجهة مع روسيا"، واعتبر أن واشنطن "لم تبد أي اهتمام لمنطقة شمال أفريقيا والجزائر لوضعها نصب أعينها مواجهة روسيا وهزيمة الكرملين، وتركت قارة أفريقيا بعيدا عن اهتماماتها".
ورأى التقرير أن "هزيمة الدب الروسي هو نفسه مساعدة الجزائر"، موجهاً في السياق "نصائح" لإدارة جو بايدن بأن "لا يقع في فخ قاتل من خلال تجاهل الجزائر، ويمكن ذلك أن يُعرض المنطقة للخطر ويجلب القوات الروسية مباشرة إلى أبواب الحلف الأطلسي".
فرنسا.. انحسار ومقاومة
الدكتور حسين قادري، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، يرى أن التقارير الأمريكية الأخيرة حول "النفوذ على الجزائر لا تستند إلى وقائع ومعطيات دقيقة"، معتبرا بأن "خلفياتها السياسية غطّت على حقائق اقتصادية وثقافية واجتماعية".
وقال قادري، في حديث لـ"العين الإخبارية"، إن الجزائر أعادت النظر من نحو عقد في سياستها الخارجية ولجأت إلى "استراتيجية تنويع الشركاء للخروج من عنق زجاجة النفوذ الفرنسي في إطار سياسة رابح – رابح، والانتقال للتعامل بـ"ندية" مع باريس.
وأوضح الأكاديمي أن الجزائر تمكنت، في الأعوام الأخيرة، من تنويع شركائها التجاريين والاقتصاديين والخروج من الاحتكار الفرنسي، مشيرا إلى زيادة حجم التواجد والاستثمارات الصينية والروسية والإيطالية والإسبانية، وكذلك مع كوريا الجنوبية واليابان.
في المقابل، يؤكد متابعون لملف العلاقات الجزائرية – الفرنسية، أن باريس ما زالت مهيمنة اقتصادياً وثقافياً في الجزائر رغم انحسار مصالحها بشكل غير مسبوق في الأعوام الـ5 الأخيرة.
وإضافة إلى ملف الذاكرة الذي فاقم، بالعامين الأخيرين، من تعقيد العلاقات بين البلدين، فإن خسائر باريس الاقتصادية فيما يعرف إعلامياً بـ"جنتها الخلفية" في إشارة إلى الجزائر، تجاوزت 18 مليار دولار بعد توقيف عدة مشاريع لها من قبل الحكومة الجزائرية في إطار "سياسة تقليم أظافر النفوذ الفرنسي سياسياً واقتصادياً".
وعلى النقيض من ذلك، تظهر مؤشرات اقتصادية أخرى "مقاومةً فرنسية" للبقاء في السوق الجزائرية، وتهيمن شركاتها بمجال الاستثمار في الجزائر بنحو 400 شركة في عدة قطاعات.
ثقافياً واجتماعياً أيضا، تبقى باريس "المهيمنة" في الجزائر رغم تراجع لغتها بالسنوات الأخيرة لصالح الإنجليزية، فيما يتجاوز عدد الجزائريين المقيمين في باريس 5 ملايين، ليكونوا بذلك أكبر كتلة بشرية للمهاجرين في فرنسا.
تقارير إعلامية محلية أكدت منذ 2019، بناء على اعترافات مسؤولين بارزين في نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة متهمين في قضايا فساد، عرقلة باريس لمشاريع استثمارية لدول عربية وأوروبية بينها ألمانيا وروسيا في الجزائر.
كما حصلت شركات فرنسية عديدة "كانت على مشارف الإفلاس" على استثمارات ضخمة بالجزائر لإنقاذها من الانهيار خلال العقد الأخير، خاصة شركات بناء السدود والري.
واعترف وزير الطاقة الجزائري الأسبق شكيب خليل، في تصريحات إعلامية، بالعراقيل التي واجهت الاقتصاد الجزائري خلال الفترة الماضية، وأقر بأنه "لا يمكن تمرير مشروع استثماري أجنبي بالجزائر دون أن يمر على باريس".
روسيا.. سلاح ونفط
منذ استقلال الجزائر عام 1962، كان الاتحاد السوفياتي مصدر الأسلحة الأول للجزائر بعد أن انحازت للمعسكر الشرقي رغم تغلغل النفوذ الفرنسي بالجزائر منذ ذلك الوقت.
وارتبط البلدان منذ 2001 بـ"اتفاق شراكة استراتيجية"، يتعلق بالشراكة والتعاون في عدة مجالات أبرزها الاقتصادي والتجاري والطاقة والعسكري والعلمي والتقني.
وفي العقدين الأخيرين، رفعت الجزائر من موازنتها المخصصة للدفاع من 10 مليارات دولار إلى 13 مليار دولار، بينما تقتني أكثر من 60 % من أسلحتها من موسكو وباتت ثالث مستورد للسلاح الروسي في العالم بعد كل من الهند والصين.
كما توجد روسيا باستثمارات ضخمة في قطاع النفط الجزائري منذ 6 عقود، عبر 5 شركات نفطية كبرى، وهي و"روس نفط" و"ستروي ترانس غاز" "غاز بروم" و"لوك أويل" و"زاروبيج".
الصين وتركيا.. عملاق وماكر
وتبرز الصين عبر استثمارات ضخمة بالجزائر، أعادت من خلالها "قلب موازنة النفوذ" في الجزائر بالأعوام الخمسة الأخيرة.
وانضمت الجزائر بشكل رسمي إلى طريق الحرير الصيني المعروفة بـ"مبادرة الحزام والطريق" في يونيو/حزيران 2019، فيما تبلغ قيمة الاستثمارات الصينية المباشرة بالجزائر 10 مليارات دولار، وحجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين وصل إلى 9 مليارات دولار، وبقيت الصين في صدارة الدول الممونة للجزائر للسلع، وفق أرقام رسمية جزائرية.
ولم يعد النفوذ الفرنسي الخطر الوحيد الذي يتهدد الجزائر والذي أكدته تصريحات رسمية سابقة ولافتات شعبية بمظاهرات الحراك الشعبي، إذ برز في السنوات الأخيرة "تغلغل مريب" للاستثمارات التركية بالجزائر، والتي وصلت إلى نحو 5 مليارات دولار في عدة قطاعات.
وحذر خبراء أمنيون جزائريون من "خطورة التمدد التركي" في الجزائر عبر بوابة الاستثمارات، معتبرين بأنها "طُعم مخادع للهيمنة التامة"، وأعطوا أمثلة على ذلك بـ"ليبيا" عندما سرّع النظام التركي من استثماراته خلال الأعوام الأخيرة من حكم الراحل معمر القذافي، قبل أن تتدخل عسكرياً بهذا البلد العربي بحجج حماية مصالحها الاقتصادية.