الحراك الجزائري.. وقضية الهوية
القضية الأمازيغية في الجزائر تحتاج إلى مناقشةٍ موضوعيةٍ كي لا تظل قابلة للاشتعال مع كل تطور مقصود أو غير مقصود.
بينما كان المعنيون بالشأن الجزائري يتابعون التطور في التفاعل بين الحراك الشعبي والسلطة حول مسار المرحلة الانتقالية، إذا بالقضية الأمازيغية تفاجئهم وتطفو على السطح.
فقد حذّر رئيس الأركان أحمد قائد صالح في ١٩ يونيو/حزيران 2019 من محاولة اختراق الحراك، وذلك عبر رفع رايات أخرى غير الراية الوطنية من قِبَل أقلية قليلة جدا، وأضاف أن الأمن تلقى تعليمات بمنع رفع أعلام بخلاف العلم الجزائري الذي استشهد من أجله الملايين.
لم يشر قائد صالح صراحة إلى الراية الأمازيغية التي كانت تُرفَع في بعض مظاهرات الحراك، لكن الجميع فهم أن تلك الراية كانت هي المقصودة.
كما أثارت كلمة رئيس الأركان ضجة واسعة فور بثّها، إذ اعتبر البعض أن الهدف منها هو تقسيم الحراك بخصوص قضية وصفها صالح نفسه بأنها "قضية حساسة"، وتحفظ على وصف الأمازيغ الذين رفعوا رايتهم بأنهم "أقلية قليلة جدا" كتعبير عن نظرة فوقية لسكان البلد "الأصليين".
وذهب البعض الآخر إلى أن الكل ينبغي أن يتوحد تحت الراية الجزائرية وأنه لا موضع في الحراك لإبراز الخصوصيات الجهوية ولا الانتماءات الأيديولوجية، أما فيما يخص الهجوم على قائد صالح فإنه هو نفسه من الأمازيغ الشاوية، ومن مواليد مدينة باتنة بالشرق الجزائري وبالتالي لا موضع لاتهامه بصفات من نوع التعصب والاستعلاء.
وفي هذا الجو المشحون حلّت الجمعة الثامنة عشر للحراك بعد يوم واحد على كلمة رئيس الأركان فتحداه بعض المتظاهرين وقاموا برفع العَلَم الأمازيغي وأوقفت الشرطة عددا منهم، كما حُمِلت لافتات تشير إلى أخوّة مكونّي الشعب الجزائري. واتخذ الموضوع أبعادا خطيرة مع منع رفع العَلَم الوطني في شوارع تيزي وزو وبجاية بإقليم القبائل ردا على حظر رفع العَلَم الأمازيغي.
وانتشرت صور على وسائل التواصل الاجتماعي تقارن بين الأمن الجزائري وهو يفتش عن العَلَم الأمازيغي في حقائب المتظاهرين والجنود الفرنسيين وهم يفتشون المواطنين الجزائريين أثناء الثورة بحثا عن العَلَم الجزائري! وتلك مقارنة مُغرِضة بامتياز.
لقد شاعت ظاهرة رفع أعلام مختلفة إلى جانب العَلَم الوطني في المظاهرات التي شهدتها دول عربية منذ عام 2011، ففي مصر كانت تُرفع في ميدان التحرير أعلام أخرى إلى جانب العَلَم المصري. وفي ليبيا رُفِعَ عَلَم المَلَكية بجوار عَلَم الجمهورية وكذلك عَلَم تنظيم داعش الإرهابي، وفي سوريا نفس الأمر.
ورَفعُ العلم في هذا النوع من المناسبات له مبررات مختلفة، منها تسجيل موقف معين، أو استعراض القوة، أو تعبير عن الخصوصية، وهذا هو الحال مع الراية الأمازيغية في الحراك الجزائري.
مكونات الحركة الأمازيغية في الجزائر
إن من يقرأ تاريخ الجزائر يدرك تماما أن الأمازيغ دفعوا ثمنا غاليا لانتزاع الاعتراف بخصوصيتهم الثقافية سواء قبل الاستقلال عن فرنسا أو بعده، وبالتدريج أخذ هذا الحلم يتحقق وصولا إلى الاعتراف بالأمازيغية لغة رسمية في دستور عام ٢٠١٦ لكن في الوقت نفسه لا يمكن إنكار وجود توظيف سياسي للقضية الأمازيغية لم يختلقه رئيس الأركان، ولا يمكن نفي أن هذا التوظيف يُعّد جزءا من الصراع على هوية الجزائر وعروبته بل ويُعّد جزءا من محاولة النَيل من وحدة ترابه الوطني.
في الحركة الأمازيغية يوجد عدد لا بأس به من ألوان الطيف، وكما أن فيها حزبا أمازيغيا وطنيا مثل "جبهة القوى الاشتراكية"، فإن فيها حركة أمازيغية انفصالية مثل "الحركة من أجل استقلال الجزائر".
وفيما يخص "جبهة القوى الاشتراكية" فقد انخرطت في الحراك الشعبي منذ بدايته وكانت من القوى الرافضة للحل الدستوري، وشكّلت مع بعض الأحزاب وقوى المجتمع المدني والشخصيات العامة ما يُعرَف باسم التيار الديمقراطي، ويهدف هذا التجمع إلى هيكلة الحراك الشعبي وإيجاد متحدث باسمه ووضع خارطة طريق للمرحلة الانتقالية.
الطرح الذي تتبناه "جبهة القوى الاشتراكية" يمكن الاختلاف معه من باب أن ترك الحل الدستوري إلى الحلول السياسية خيار غير مضمون العواقب، وأن مطالبة رئيس الأركان بالبُعد عن المشهد قبل إجراء انتخابات الرئاسة يُنذِر بصدام مع المؤسسة العسكرية، لكن على كل حال فإن تلك هي رؤية الجبهة لآلية تحقيق الديمقراطية في الجزائر.
ويختلف هذا الوضع بالكلية عن وضع "الحركة من أجل استقلال منطقة القبائل" التي تدعو لفصل إقليم القبائل عن الدولة الجزائرية، والتي شكّل مؤسسها فرحات مهّني عام ٢٠١٠ "حكومة انتقالية لبلاد القبائل" مقرّها باريس، وجعل لها عَلَما يختلف في بعض تفاصيله عن العلم الأمازيغي التقليدي. وعندما بدأ الحراك الشعبي في ٢٢ فبراير/شباط ،٢٠١٩ تصور مهّني أن الفرصة سنحت لتنفيذ خطته الانفصالية، لكن لأنه لا يستطيع دخول الجزائر فإنه ألقى في نهاية أبريل/نيسان 2019 محاضرة عن بُعد في جامعة مولود معمري بتيزي وزو كان عنوانها هو "معركة القبائل في مواجهة الاحتلال الجزائري". وقد أثارت المحاضرة استهجانا كبيرا اضطرت بسببه جامعة مولود معمري إلى إصدار بيان للدفاع عن موقفها والتأكيد على أنها تعي مسؤولياتها. ولتكملة الصورة نلاحظ أن مهنّي ليس وحده وأن هناك اشتغالا على فصل باقي المناطق التي يتركز فيها أمازيغ الجزائر أي في الأوراس والمزاب.
الحراك الشعبي.. وتوظيف القضية الأمازيغية
كلما طال أمد الحراك الشعبي سنحت الفرصة أكثر لتوظيف القضية الأمازيغية في بيئة مهيأة أصلا لذلك، وهذه النقطة من المهم أخذها بعين الاعتبار، لأنه بقدر استمرار المتظاهرين في الشارع جمعة بعد أخرى مكّنهم من تحقيق العديد من مطالبهم مثل تأجيل الانتخابات ومحاكمة رؤوس كبيرة بتهم الفساد، فإنه بمرور الوقت يمكن أن تنشأ خلافات فرعية بين قوى الحراك لا علاقة لها بالمطالب الأساسية، هذا فضلا عن تزايد احتمالات التدخل الخارجي.
ولعل المتابع عن قرب للفترة الممتدة ما بين بدء الحراك الشعبي في ٢٢ فبراير/شباط وحتى نهاية يونيو/حزيران 2019، يلاحظ كيف كانت المشاعر جاهزة للاحتقان على الجانبين العربي والأمازيغي، تارة بسبب محاضرة فرحات مهنّي التي سبقت الإشارة إليها، ومرة بسبب وفاة الحقوقي الأمازيغي كمال الدين فخّار الذي كان قد دخل في إضراب عن الطعام وهو سجين، ومرة بسبب موضوع الراية الأمازيغية. لكن موضوع الراية بالذات كانت التفاعلات معه هي الأضخم، أولا لأن هناك تربصا برئيس الأركان من قوى مختلفة من داخل الحراك الشعبي إضافة لأطراف من خارج الجزائر وعلى رأسها فرنسا، وثانيا لأنه يمسّ العصب الثقافي الحساس للأمازيغ.
في أعقاب تحذير رئيس الأركان أثارت المحامية زبيدة عسّول رئيسة "حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي" وعضو "حركة مواطنة" قضية العَلَم الجزائري في محاضرة ألقتها بولاية بجاية، وفي هذا السياق ذكرت أن العَلَم الجزائري بألوانه الثلاثة الأخضر والأحمر والأبيض ويتوسطه الهلال والنجمة إنما هو عَلَم "السلاچقة العثمانيين الذين حكموا الجزائر". أما العَلَم الأمازيغي فإنه في رأيها هو المعبر عن الهوية الجزائرية.
هكذا فإن من المفارقة أن زبيدة عسّول التي أرادت أن تبعث برسالة لقائد صالح جوهرها أن العَلَم الأمازيغي هو العَلَم الأصلي للدولة وليس العَلَم الجزائري، إنما أكدت في الواقع مخاوفه مما وصفه بـ"التلاعب بمشاعر الشعب الجزائري".
وكما كان كلام زبيدة عسّول تصعيديا تصاعدت ردود الفعل عليه حتى تحولت قضية الراية الأمازيغية إلى ما يشبه كرة الثلج، حيث دعت نعيمة صالح وهي نائبة برلمانية ورئيسة "حزب العدل والبيان" إلى مقاطعة حَمَلَة "رايات الفرشيطة في التجارة والصداقة والزواج"، والفرشيطة في اللغة العامية الجزائرية هي الشوكة وذلك في إشارة إلى الحرف الذي يتوسط علم الأمازيغ ويتخذ شكل الشوكة!
إن القضية الأمازيغية في الجزائر تحتاج إلى مناقشةٍ موضوعيةٍ كي لا تظل قابلة للاشتعال مع كل تطور مقصود أو غير مقصود، وهي جزء من قضية أعّم هي قضية الهوية التي تفرض نفسها على كل بلداننا العربية خصوصا في مرحلة إعادة التشكُل والتغيير السياسي.
ولكي تتحقق هذه المناقشة فلا بد من حسم مسألة الانتخابات الرئاسية، وبوسع الحراك أن يضمن سلامة الانتخابات من خلال التصويت الكثيف ومراقبة سير العملية الانتخابية، كما تُحسن صنعاَ السلطة لو استجابت لمطلب تغيير رئيس الحكومة قبل إجراء الانتخابات، فرغم أن الدستور يحظر تغييره في ظل غياب رئيس منتخب، فإن الدستور لم يتحدث عن حالة استقالة رئيس الحكومة، وهذا أمر يجوز الاجتهاد الدستوري فيه كما جرى من قبل الاجتهاد الدستوري بالتمديد لرئيس الجمهورية المؤقت حتى إجراء الانتخابات.
أما أن تتوالى الجمعات والوضع على ما هو عليه ففي هذا خطر كبير على الحراك وعلى الجزائر ككل.
aXA6IDMuMTM4LjE4MS45MCA= جزيرة ام اند امز