الإمارات تعيد الروح إلى «الموصل».. قصة إحياء الجامع النوري والمئذنة الحدباء

في قلب مدينة الموصل القديمة، حيث تلتقي ذاكرة الحرب بظلال التاريخ، أعيد افتتاح الجامع النوري الكبير وارتفعت مئذنته الحدباء من جديد.
مشهد الافتتاح الذي قاده رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، اليوم الإثنين، لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية؛ بل كان إعلاناً عن عودة روح مدينة تنهض من تحت ركام الحرب.
هذا المشروع لم يكن ليأخذ شكله الحالي من دون التمويل السخي لدولة الإمارات، التي رأت في إعادة بناء المسجد والمئذنة رسالة أبعد من الهندسة والعمارة: رسالة تقول إن مواجهة التطرف تبدأ من حماية ما يرمز إلى الهوية الجماعية.
ذاكرة في مواجهة المحو
يعود تاريخ جامع النوري إلى القرن السادس الهجري، عندما بناه نور الدين زنكي. ولقرون طويلة، ظل الجامع رمزاً دينياً وحضارياً للموصل، حتى لحظة صادمة في يونيو/حزيران 2017، عندما فجّره تنظيم "داعش" الإرهابي وهو يتقهقر أمام القوات العراقية.
في تلك اللحظة، لم يكن التفجير استهدافاً لحجر أو مئذنة، بل محاولة متعمدة لاقتلاع ذاكرة مدينة كاملة.
بالنسبة لسكان الموصل، كانت المئذنة الحدباء التي تميل بزاوية فريدة جزءاً من يومياتهم، تُرى من بعيد وتُسمع عندها أصوات الأذان. وكان فقدانها يعني، في نظر كثيرين، فقدان خيط حيوي يربطهم بجذورهم.
الإمارات وصوت التراث
حين أطلقت منظمة اليونسكو مبادرة "إحياء روح الموصل" عام 2018، كانت الإمارات أول دولة عربية تضع ثقلها المالي والسياسي خلف المشروع.
قدمت أكثر من 50 مليون دولار لإعادة إعمار جامع النوري ومئذنته، إلى جانب كنيستي الطاهرة والساعة.
هذا الالتزام لم يكن مجرد منحة مالية، بل جزءاً من رؤية أوسع تسعى أبوظبي من خلالها إلى تأكيد أن حماية التراث العالمي ليست ترفاً ثقافياً، بل شرطاً للاستقرار ومواجهة التطرف.
ووصفت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي المبادرة بأنها "عودة للتاريخ والهوية في الموصل"، لكنها في الوقت ذاته عكست كيف باتت الإمارات صوتاً بارزاً في الدفاع عن التراث الإنساني عالمياً.
تحديات البناء وإعادة الميل
لم يكن العمل سهلاً. فرق الترميم واجهت ألغاماً لم تنفجر، بقايا متفجرات دفنها "داعش" في محيط المسجد.
التحدي الأكبر كان إعادة بناء المئذنة الحدباء "بميلها القديم"، وهو ميل لم يكن عيباً هندسياً بل علامة مميزة جعلتها أقرب إلى أيقونة.
المهندسون، بدعم إماراتي، استخدموا المواد الأصلية نفسها، وحافظوا على النسبة الدقيقة للانحناء، ليشعر سكان الموصل أن ما عاد إليهم ليس نسخة جديدة، بل ذات المئذنة التي عرفوها.
الرمزية تتجاوز الموصل
ما فعلته الإمارات في الموصل ليس معزولاً، فعلى مدى سنوات، ساهمت أبوظبي في دعم عشرات المشاريع حول العالم: من قبة الصخرة في القدس، إلى متحف الفن الإسلامي في القاهرة، وصولاً إلى مكتبة ماكميلان التاريخية في نيروبي. في كل مرة، كانت الرسالة نفسها: مواجهة سياسات المحو الثقافي بإحياء الرموز التي توحد المجتمعات.
في الموصل، حمل المشروع معنى إضافياً، فبينما دمر "داعش" جامع النوري ليجعله شاهداً على إعلان "خلافته" المزعومة، أعادت الإمارات واليونسكو بناءه ليصبح شاهداً على قدرة المجتمعات على الانتصار على التطرف.
الأذان والأجراس معاً
جزء من قوة مبادرة "إحياء روح الموصل" كان في شموليتها، إذ لم تقتصر على الجامع النوري، بل شملت أيضا كنيسة الطاهرة التي تعود إلى نحو 8 قرون، وكنيسة الساعة التي اشتهرت بأجراسها وبرسالتها التعليمية العابرة للطوائف.
حين تعود أصوات الأذان من المنارة الحدباء جنباً إلى جنب مع قرع أجراس الكنيستين، ستُعلن الموصل عن صفحة جديدة من تاريخها.
وفي زمن يسهل فيه تدمير التراث وطمس الهوية، تبدو مبادرات مثل "إحياء روح الموصل" جزءاً من معركة عالمية أكبر؛ معركة الدفاع عن الذاكرة، وعن أصوات الماضي التي تمنح الحاضر معنى، والمستقبل أفقاً.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuNyA= جزيرة ام اند امز