في ذكرى ميلاده ورحيله.. الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء"
9 مايو/ أيار يوافق ذكرى ميلاد ورحيل الشيخ محمد رفعت الذي لايزال يحتفظ بمكانته بين قمم التلاوة القرآنية رغم رحيله منذ أكثر من 60 عاما.
حار عُلماء الصوت في التوصل لسر الشيخ محمد رفعت، وكذا حار أقطاب القُراء والموسيقيين، وأوجز محبوه ولقبوه بـ"قيثارة السماء"، في تقريب للحالة الوجدانية التي تُحلق بها تلاوة الشيخ الجليل بمستمعيه إلى السماوات، أو كما وصفه مرة صديقه الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب "صوته ملائكي يأتي من السماء لأول مرة".
اتسعت دوائر العجب في سيرة الشيخ الراحل محمد رفعت، بدءا من تلاقي يوم ميلاده ووفاته في ذات التاريخ 9 مايو/ أيار، اليوم الذي وُلد فيه عام 1882، وشهد رحيله عام 1950، وما بينهما عُمر طويل سخره صاحبه لخدمة القرآن الكريم، الذي شبّ على حفظه منذ كان طفلا عمره خمسة أعوام، وما أن بلغ السادسة حتى لفت نظر شيخه بتميزه عن أقرانه، فسار في درب علم القراءات والتجويد.
شكّل وجدان الطفل النابغة حادثان في وقت مبكر من عمره، الأول كان فقده لبصره وهو في الثانية من عمره، ما جعله تقريبا بلا ذاكرة بصرية، وصار الصوت هو جل عالمه وإدراكه للعالم، أما الحادث الثاني فكان وفاة والده وهو في التاسعة من عمره، ما غيّر مساره من حلمه للالتحاق بالدراسة في الأزهر، إلى تحمل مبكر لمسؤولية أسرته التي بات عائلها الوحيد، فبدأ في إحياء الليالي في القاهرة بترتيل القرآن الكريم.
ولعل هذا الاختيار الإلهي ما صنع منه أسطورة من أساطير التلاوة في التاريخ، بعد أن ذاع صيته رغم سنه الصغيرة وأصبح يُدعى بالاسم للترتيل في محافظات مصرية مختلفة، إلى أن تم تعيينه وهو في سن الخامسة عشرة قارئا بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب بقلب القاهرة عام 1918، وهناك بلغ من الشهرة ما لم يحظ به أحد في وقته، حتى أن تلك الشهرة بلغت كبار رجال الدولة آنذاك، فحرص مثلا كل من الملك فاروق والنحاس باشا على الاستماع لتلاوته، وكان صوته الملائكي بوابته الواسعة لعالم الإذاعة المصرية، بعد أن تم اختياره لافتتاح الإذاعة المصرية عام 1934، في لحظة تاريخية صاحبت تلاوته للآية الكريمة "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا".
طلبت عدد من الإذاعات الأجنبية من الشيخ محمد رفعت تسجيل سور قرآنية لبثها لديها، وهو ما قابله الشيخ الجليل بتوجس، وبعد أن استفتى الإمام المراغي وأفتاه بعدم حرمانية الأمر، قام بتسجيل سورة "مريم" لهيئة الإذاعة البريطانية.
في حوار نادر له مع مجلة "الإثنين" عام 1940، قال الشيخ محمد رفعت إنه يحرص على الحفاظ على صوته عبر تجنبه الإصابة بالبرد، وعدم التدخين، وعدم البقاء فى مكان به روائح نفاذة، وعدم تناول الأطعمة التى تحتوي على مواد حريقة، كالفلفل والشطة، ولا الأطعمة التي قد تتسبب في عُسر هضم، حتى أنه لا يتناول وجبة العشاء.
ورغم حرصه الشديد، إلأ أن ربه ابتلاه في دُرته، واكتشف إصابته بسرطان الحنجرة، الأمر الذي عاقه عن استكمال تسجيلات القرآن للإذاعة المصرية، وتم الاستعانة عندها بالشيخ أبو العينين شعيشع الذي كان أحد أبرز المتأثرين بتلاوته، علاوة على تشابه صوته الشديد بالشيخ رفعت، وذلك لتعويض الانقطاعات في تسجيلات الشيخ رفعت، وظل على الرغم من هذا الاعتزال حريصا على القراءة في مسجد فاضل باشا، وفاءً للمكان الذي كان أول ما عرّف به في عالم القراءة في بداياته.
وضرب الشيخ محمد رفعت أمثلة أخرى في رُقيه الإنساني، وتعففه النبيل، بعد أن رفض مبلغا ماليا تم جمعه في اكتتاب من قبل مُحبيه لعلاجه، ورغم أنه لم يكن وقتها يملك ثمن العلاج إلا أنه رفض قبول المبلغ للعلاج، واعتبر المرض ابتلاء من الله، ونُسب إليه وقتها قوله: إن قارئ القرآن لا يُهان.
وعلى الرغم من رحيل الشيخ محمد رفعت عن دُنيانا منذ أكثر من 60 عاما، فلايزال مفضلا في الاستماع، ورقما لا يُزاحَم في المنافسات، فقد جمع صوته بين الرخامة والقوة، والانتقال السلس بين المقامات، والخشوع والرحمة، وطالما كان يبكي وهو يقرأ، في اتساق شديد بين ما يقرأ ويشعر، حتى لُقب كذلك ب"الشيخ الباكي" الذي يقرأ ودموعه تُغالبه، وهي الحالة الوجدانية المُخلصة التي كان يُفسرها الكاتب الصحفي الراحل محمود السعدني بقوله "كان مُمتلئًا تصديقا وإيمانا بما يقرأ".
aXA6IDUyLjE1LjE3MC4xOTYg جزيرة ام اند امز