أعتذر بداية لأنني سأبدأ مقالي هذا بأمر شخصي، ثم أعود إلى سياقاته، لأنه وعلى المستوى الشخصي فإن عام 2023 حمل لي في الداخل الأمريكي أمرين مهمين جدا.
أول هذين الأمرين: أنني لم أغادر واشنطن أبدا طوال العام، في محاولة لاستقراء الداخل الأمريكي في هذا العام (الصعب جدا) على أمريكا، وثانيهما: لقائي وحواري مع الرئيس (دونالد ترامب) في منتجعه الرئاسي.
بداية أقول إنه لا يمكن وصف عام 2023 إلا أنه كان عاما (صعبا جدا) على العالم بأجمعه وعلى الولايات المتحدة تحديدا، فقد بلغت المنافسة الجيوسياسية بينها وخصومها مستويات لم تعرف من قبل، وتعددت عليها المشاكل والصراعات في أماكن بعيدة.
كانت كل التحليلات تؤكد أن واشنطن ارتاحت وسترتاح لسنوات قادمة من (صداع) هذه البؤر التي لا تستطيع الولايات المتحدة إغفال النظر عنها، لما تحويه من (مصالح استراتيجية). وهي التي ظنت على لسان بعض مستشاريها أن الشرق الأوسط سيكون منطقة هادئة خلال عام 2023، ولسنوات بعده.
لكن استعار الحروب وتهديد الحلفاء كانا هما (الصدمة الكبرى) منذ الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هذا في الشرق الأوسط، أما الحليف الأوكراني فقد فشل في كسر قبضة روسيا على شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وبات (الملل) هو ديدن المشرعين في الولايات المتحدة من هذه الحرب، التي باتوا يقفون أمام تشريع إرسال مساعدات لها في الكونغرس.
عام 2023 حمل للولايات المتحدة فصولا متوالية من الصراع مع (الصين)، فنهاية العام الماضي التقى الرئيس جو بايدن نظيره الصيني شي جين بينغ على هامش قمة مجموعة العشرين في مدينة بالي، لكن أعقب ذلك ظهور منطاد صيني فوق الولايات المتحدة تم إسقاطه، ثم فرضت قيود تجارية إضافية على الصين، وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لم يسفر اللقاء بين الرئيسين الصيني والأمريكي في منتدى قادة أبيك عن (غسل للقلوب) بين الطرفين.
ولا أبالغ إن قلت إن الأمور عادت إلى نقطة الصفر بين الخصمين اللدودين، وستبقى الحرب التقنية بينهما مستمرة، لأن الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على التقدم على الصين فيما يتعلق بتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
الاقتصاد.. وما أدراك ما الاقتصاد في عام 2023، ذلك أنه ومع مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي انطلقت السنة المالية الجديدة وبدأت معها معارك حامية بين الجمهوريين والديمقراطيين لإقرار مشاريع قوانين معتادة في كثير منها، على الرغم من أن هناك كثيرا من الوكالات الفيدرالية تخطط لإعادة مئات الآلاف من العمال إلى بيوتهم.
لكن لن تتأثر قضايا الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، وتبقى أزمة الديون الشغل الشاغل للكونغرس، فقد شهدنا في هذا العام وصول الولايات المتحدة إلى حافة التعثر في سداد الديون؛ حيث قارب التضخم الـ4%.
وباختصار أقول إن الولايات المتحدة لن تستطيع في العام المقبل تحمل زيادة إنفاق الميزانية عدة مرات على أي أمر، سواء عبر بنية تحتية أو حرب خارجية، وسيبقى الهدف الأساسي السيطرة على التدهور الحاد في مستويات المعيشة الداخلية.
أما إذا تحدثنا عن النفط فقد كانت الزيادة الكبيرة في إنتاج الخام داخل الولايات المتحدة وتباطؤ نمو الاستهلاك في البلدان المستهلكة سببا في تحقيق فائض يبلغ حوالي 500 ألف برميل يوميا في سوق النفط، وإن كانت التوترات قد ساعدت في ارتفاع الأسعار لفترة محدودة خلال العام.
وأما عام 2024 فيبدو أن تباطؤ النمو الاقتصادي سيؤدي إلى انخفاض الطلب وتراجع الأسعار مع الاعتماد العالمي على طلب الوقود من الصين والولايات المتحدة.
وإذا تحدثنا عن 2023، فقد تم في هذا العام إحراز بعض التقدم في اتخاذ خطوات لمعالجة المناخ، رغم معارضة بعض المؤسسات لهذه الخطوات، وتبقى الولايات المتحدة ثاني أكبر مصدر للغازات المسببة للاحتباس الحراري في العالم، لكنها أيضا البلد الأكثر مساهمة في أزمة المناخ.
في عام 2024، لن يطغى موضوع في الداخل الأمريكي على الشأن الانتخابي، حيث إن إرهاصات الانتخابات الأمريكية بدأت بالتشكل، فقد حمل كثير من استطلاعات الرأي تقاربا بين بايدن وترامب، وكثر الحديث عن ظهور (مرشح ثالث) قد يؤثر على الانتخابات نهاية الـ2024.
وحتى هذه اللحظة، فإن هناك أكثر من 50% في كلا الحزبين يحبذون مرشحا ثالثا بسبب تقدم عمر المرشحين الاثنين (بايدن وترامب)، ويبقى ترامب هو نجم عام 2023، على الرغم من أنه ليس في سدة الرئاسة، لكن الأخطار القانونية التي واجهته هذا العام والثقة المطلقة من حزبه بشأن ترشحه للرئاسة، حيث لم يتقدم أي مرشح قوي داخل الحزب الجمهوري لمنافسته.
وفي رأيي، فإن التحقيقات القانونية معه (ترامب) سيظل تأثيرها منعدمًا فيما خص الانتخابات التمهيدية والرئاسية، وكأن ما حصل مع الرجل خلال عام 2023 كان بمثابة مؤتمرات انتخابية أكسبته زيادة مذهلة في الشعبية، وأما بايدن فقد كان العام مليئا بفضائح نجله هانتر، وكذلك سعي بعض الجمهوريين لعزله بسبب شبهات فساد تخص نجله، وكذلك شكوى الأمريكيين من معدلات البطالة والتضخم.
في عام 2023، فشلت الولايات المتحدة في إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، الذي خرجت منه عشية انتخاب بايدن وشاركت في حروبه المتجددة بصورة غير مباشرة، إلى أن وقعت أحداث الـ7 من أكتوبر، وخلال الأعوام الثلاثة الماضية زادت مبيعاتها من الأسلحة بما يوازي ارتفاعا سنويا يقدر بـ40%.
عام 2023 حمل انحيازا مطلقا من الولايات المتحدة لإسرائيل، فيما خص أحداث 7 أكتوبر، مما شكك في كونها طرفا وسيطا في أي سلام محتمل.
في عام 2024 سيبقى الشرق الأوسط محط أنظار كثير من الدول العظمى، وسيزداد النشاط العسكري في المنطقة ما بين روسيا والصين والولايات المتحدة، التي ستعود أساطيلها البحرية والجوية، بهدف حماية الممرات الملاحية ومواجهة كثير من الفصائل في الشرق الأوسط، التي أتعبت الولايات المتحدة وأتعبتها هي كثيرا، واليوم تعلن واشنطن تشكيل قوة عمل بحرية متعددة الجنسيات ستكون بمثابة (الوجود الجديد) داخل الشرق الأوسط، يستمر لعقود مقبلة وسط نظام عالمي مرتقب ظهرت إرهاصاته في عام (2023) وستبدأ نواته بالتشكل خلال العام الجديد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة