انخفض تقدير معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، خلال العام الحالي، ليصبح في حدود 2.9% فقط بعد أن كان من المقدر سابقا أن يسجل 3%
تماما، كما كان متوقعا، رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) أسعار الفائدة، يوم الأربعاء الماضي، بمقدار 0.25%، وكان الأثر الملحوظ لهذا القرار هو رد الفعل العصبي نسبيا الذي اتسمت به العديد من الأسواق المالية، فقد سجلت الأسهم الأمريكية هبوطا حادا يبلغ نحو 1.5% يوم الأربعاء ذاته، وفي صباح اليوم التالي كانت البورصة اليابانية قد شهدت هي الأخرى تدهورا حادا بلغت نسبته 2.8%، ليسجل مؤشر البورصة أدنى مستوياته منذ خمسة عشر شهرا، بينما نجت البورصات الأوروبية لأنها أغلقت قبل صدور قرار الاحتياطي الفيدرالي.
القرار يعزز حدوث تباطؤ اقتصادي
والواقع أن ما كان وراء ردود الأفعال العصبية تلك في أسواق المال، وغيرها من الأسواق، لم يكن نتيجة القرار الذي صدر، بل نتيجة لما تم استخلاصه من نتائج اجتماع مجلس الاحتياط الفيدرالي، فقد كان العديد من المتعاملين في الأسواق والمراقبون لها يرون أن الميل الواضح للتباطؤ في النشاط الاقتصادي قد يدفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى التفكير في التراجع عن خططه المستقبلية في زيادة أسعار الفائدة مرة أخرى خلال النصف الأول من العام المقبل، إذ كان من المستقَرّ عليه، منذ عدة أشهر، أن المجلس ربما يرفع أسعار الفائدة مرتين أخريين خلال هذا النصف من العام، ولكن مع بدء تسجيل معدلات النمو لانخفاضات واضحة في الولايات المتحدة وألمانيا واليابان والصين والأسواق الناشئة، كانت هناك تقديرات -بل وللدقة كانت هناك أمنيات- بتراجع الاحتياطي الفيدرالي عن هذه الزيادات المتوقعة.
الصدمة التي حدثت إذن في أسواق المال، وما قد يحدث من تطورات في أسواق السلع وحركات رؤوس الأموال العالمية لم تكن نتيجة مباشرة للارتفاع الأخير في سعر الفائدة الأمريكي، بل هي نتيجة لخيبة الأمل في احتمال تراجع مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن رفع هذا السعر مرة أخرى، خلال العام المقبل
فقد انخفض تقدير معدل النمو الاقتصاد في الولايات المتحدة، خلال العام الحالي، ليصبح في حدود 2.9% فقط بعد أن كان من المقدر سابقا أن يسجل 3%، وطبقا لتوقعات حديثة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية صدرت في شهر نوفمبر الماضي سيسجل معدل النمو الأمريكي العام القادم 2.6%، وهو ما يقل عن توقعات سابقة للمنظمة قبل شهر واحد فقط كانت تضع معدلات النمو الأمريكي عند 2.75% في عام 2019، أي أن الميل للتشاؤم كان يتزايد بمرور الوقت لا سيما خلال الثلاثة أشهر الماضية، وينسحب ذلك أيضا على النمو في بقية الاقتصادات الكبرى حيث انخفضت التوقعات للنمو في الاتحاد الأوروبي لتصبح 1.9% خلال العامين الحالي والمقبل، بدلا من توقع سابق كان يضعها عند 2%، والأمر نفسه في الصين التي باتت من المتوقع ألا يتجاوز معدل النمو فيها خلال العام الحالي 6.5% بدلا من 6.7%، وتوقع أن يسجل، معدل النمو خلال العام المقبل، 6.1% بدلا من 6.5%، وفي اليابان من المتوقع أن يسجل معدل النمو 1.1% خلال العام الحالي والعام المقبل، بدلا من 1.25%، بل إن الهند التي كانت استثناءا سابقا في التوقعات بأن تسجل معدلا للنمو هي الأكبر بين مجموعة العشرين عند 7.5%، خلال العام الحالي والعام المقبل، انخفضت التوقعات بشأن معدل نموها في العام القادم لتكون في حدود 7.2% فقط. الخلاصة التي كانت واضحة إذن هي أن أمريكا، بل وأغلب دول العالم، ستدخل في حالة تباطؤ واضح في النشاط الاقتصادي بعد عامين من تسجيل معدلات نمو مرتفعة نسبيا.
كانت الآمال، كما ذكرنا، تحدو المتعاملين خاصة في الأسواق المالية أن هذه التوقعات المتشائمة ستدفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي ليس إلى التراجع عن رفع سعر الفائدة يوم الأربعاء، ولكن إلى إعطاء الإشارة إلى أنه سينهي سياسة التشديد النقدي ورفع سعر الفائدة خلال العام القادم، وبينما ألمح بيان مجلس الاحتياطي إلى أن سياسة تشديد السياسة النقدية تقترب من نهايتها، إلا أنه أشار إلى أن سوق العمل واصلت تحسنها، ما قد يدفع نحو الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، خلال العام المقبل، وإن كان بوتيرة أقل. ومن المعروف وجود علاقة عكسية بين رفع سعر الفائدة والاستثمار في الأسواق المالية، فرفع سعر الفائدة يعني زيادة تكلفة الاستثمار، وهو ما يدفع إلى انخفاض معدلات الاستثمار وبالتالي معدلات النشاط الاقتصادي، وهو ما يعني بدوره إيرادات أقل وأرباح أقل للشركات خلال العام الجديد، ولذا كان التدهور الحاد في البورصات العالمية هو النتيجة الفورية لقرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي وانخفاض الأسعار في أسواق السلع
إلى جانب ذلك هناك خشية أيضا من حدوث تأثير ملموس على أسعار السلع خلال العام المقبل، وخاصة النفط وبقية السلع الأولية، فمع توقع تباطؤ النشاط الاقتصادي، من المنتظر أن ينخفض الطلب على هذه السلع، وهو ما يدفع أسعارها للانخفاض، كما أن رفع سعر الفائدة سيدفع نحو ارتفاع نسبي في سعر صرف الدولار أمام بقية العملات الرئيسية، وحيث أن الدولار هو العملة المستخدمة في تسعير هذه السلع فارتفاع سعر صرفه سيعني ارتفاع سعرهذه السلع مقومة بالعملات الأخرى، وهو ما يدفع نحو انخفاض الطلب عليها، وبالتالي مضاعفة الانخفاض في أسعارها، فلو افترضنا مثلا أن سعر صرف الدولار أمام اليوان هو 6.8 يوان للدولار فعند سعر لبرميل النفط يبلغ 50 دولارا، سيكون السعر مقوّما باليوان هو 340 يوانا، فإذا ارتفع سعر الصرف ليبلغ 7 يوانات لكل دولار يصبح سعر برميل النفط ذاته مساويا 350 يوانا، وهو ما قد يحد من الطلب الصيني على النفط، وهكذا الأمر بالنسبة لباقي العملات وباقي السلع.
الأثر على تحركات رؤوس الأموال
أيضا تحمل احتمالات استمرار الارتفاع في سعر الفائدة الأمريكية أنباء سيئة لاقتصاديات البلدان الناشئة التي تشهد أزمات حادة في أسواقها المالية وتعاني من انخفاض كبير في أسعار صرف عملاتها، منذ الصيف الماضي. إذ أن ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية سيغري بالمزيد من نزوح رؤوس الأموال من أسواق هذه البلدان للبحث عن العائد الأعلى الذي توفره أسعار الفائدة الأعلى على العملة الأمريكية، إلى جانب زيادة صعوبة تمويل ديون هذه البلدان وغيرها من دول الاقتصادات الناشئة والنامية، حيث من المؤكد ارتفاع أسعار الفائدة على ما تحصل عليه من قروض من الخارج، إلى جانب زيادة سعر الفائدة على ما تطرحه من هذه البلدان من أوراق مالية كالأذون والسندات في الأسواق العالمية.
الصدمة التي حدثت إذن في أسواق المال، وما قد يحدث من تطورات في أسواق السلع وحركات رؤوس الأموال العالمية لم تكن نتيجة مباشرة للارتفاع الأخير في سعر الفائدة الأمريكي، بل هي نتيجة لخيبة الأمل في احتمال تراجع مجلس الاحتياطي عن هذا السعر مرة أخرى خلال العام المقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة