يوم الجمعة الماضية حاول رئيس وزراء إيطاليا الاتصال برئيس أوكرانيا، ولكنه لم يوفّق في إجراء الاتصال.
إذ حاول ماريو دراجي أن يهاتف فولوديمير زيلينسكي، ولكن الأخير لم يُجب بسبب تداعيات النزاع على أرض بلاده منذ أيام.. فامتعض "دراجي"، وبعدها غرَّد "زيلنيسكي" ساخرا: "سأرتب أجندتي العسكرية لأرد على اتصالات المسؤولين من الآن فصاعدا!".
قصة هذا الاتصال تلخص حال الاتحاد الأوروبي إزاء النزاع بين روسيا وأوكرانيا.. فكييف تعتقد أن الاتحاد الأوروبي خذَلها وتخلَّى عنها، وبروكسل تشعر بقلق من الروس، ولكنها قلقة أيضا مما قد تجرُّه إليها كييف ومن خلفها واشنطن ولندن عبر الدفع بدول التكتل نحو التصعيد مع موسكو على مستويات عدة.
لا يريد الاتحاد الأوروبي خوض حرب مع روسيا على أراضيه من أجل أوكرانيا أو أي دولة أخرى، فالذاكرة الأوروبية لا تزال تئن تحت وطأة ذاكرة الحربين العالميتين، كما أن التكتل لا يجد نفسه ملزما بالدفاع عن دولة لا تحمل عضويته ولا عضوية حلف الأطلسي، أو على الأقل ليس بالقدر الذي تطالب به أمريكا وبريطانيا.
الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تصوِّران العملية الروسية في أوكرانيا على هيئة "غزو للقارة العجوز"، وأنه إذا لم يتم "إفشاله" في أوكرانيا "سيتمدد إلى جميع دول الاتحاد الأوروبي".
وبعيدا عن الواقع، فإن المبالغة والتضخيم الأمريكي قد تقودان إلى ردود فعل لا تُحمد عقباها.. فثمة دول عدة في الاتحاد الأوروبي تدرك الخطة الأمريكية جيدا، وتتجنب مجاراة تهويل الأمر من قِبَلِها وبريطانيا لغايات معينة، فتترك أبواب الحوار مفتوحة مع الروس، وتواجه تداعيات النزاع بطرق تحفظ مصالح التكتل وتراعي تباين الرؤى بين دوله.
مصالح بروكسل تتعارض مع مواجهة الروس عسكريا فوق أراضي أي دولة في التكتل. ومصالحها أيضا قد تتعرض لخطر كبير في حال "طرد" الروس من نظام "سويفت". فبين روسيا والاتحاد الأوروبي علاقات تجارية قوية، خاصة في مجال الطاقة، وبالتالي عزل موسكو اقتصاديا سيزيد أعباء الأوروبيين والروس على السواء.
حتى الآن، ولأجل قد يكون طويلا، لا يوجد بديل لموسكو كمصدر للغاز الطبيعي إلى دول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن "طردها" من المقاصة العالمية "سويفت" سيربك هذه الدول في البحث عن طرق لدفع مستحقات عقود الوقود الأزرق مع روسيا.. ناهيك بأن الغاز البديل سيكون أكثر كلفة وأقل استقرارا لأسباب جغرافية واقتصادية وسياسية أيضاً.
القمة الأوروبية الأخيرة اعترفت بذلك وحاولت تجنب العقوبات، التي قد ترتد على الاتحاد واقتصاداته.. فلا بد من استنفاد كل الخيارات الأخرى قبل اللجوء لهذه الخطوة، ولا بد أيضا من استمرار الحوار مع موسكو بشأن أوكرانيا وكل القضايا، التي تتعلق بأمن واقتصاد القارة العجوز، فالروس هم مَن يجاورون التكتل وليس بريطانيا أو أمريكا.
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اتصل بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، صباح اليوم الثاني للعملية العسكرية بين البلدين، ولم يتردد قصر الإليزيه في الإعلان عن ضرورة استمرار الحوار مع موسكو.
تحرك الدبابات الروسية لم يمنع ذلك الاتصال، ولم تمنع أيضا مناشدة المستشار الألماني للرئيس "بوتين" من أجل وقف العملية العسكرية.
لا ترغب واشنطن نفسها في "طرد" موسكو من نظام "سويفت"، فصناعة الصُّلب الأمريكية تعتمد على الطاقة الروسية.. كما أن هذا الإجراء سيعزز استخدام المقاصة العالمية كسلاح، وهو أمر ينطوي على مخاطر كبرى لأنه سيدفع بخصوم واشنطن إلى التحالف في جبهة واحدة لمواجهة التهديد المالي الغربي، والخيارات ليست معدومة.
بالنسبة للغرب، "معاقبة بوتين" كفرد أسهل بكثير من "معاقبة بوتين كقائد لقوة عظمى".. يمكنهم تجميد أرصدته البنكية وتحويلاته المصرفية، ولكن صعب أن يوقفوا شركاته عن تصدير الغاز والنفط، والأصعب من ذلك بكثير أن يشلُّوا قواته على الأرض، أو أن يهاجموا دولته فيُسقطوا حكمه بالقوة.
غاية البريطانيين والأوروبيين والأمريكيين واحدة، وهي "إفشال الغزو الروسي لأوكرانيا". وهذه المهمة إما أن تتم عاجلاً من خلال إجبار "بوتين" على سحب قواته، وإما آجلا عبر تحويل أوكرانيا إلى حفرة للقوات الروسية.. والخيار الثالث هو جعل عواقب العملية العسكرية الروسية أكبر من مكاسبها اقتصادياً.
ولأن الخيار الأول يصعب على الجميع، والثاني لا توجد ضمانات بنجاحه، والثالث تشوبه تحديات كبيرة تعيق تنفيذه بسرعة وفعالية، يبحث الأوروبيون عن خيار رابع يمكن أن يولد من خلال الحوار مع الروس.. ليس بلغة الوعيد التي تتحدث بها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وإنما بلغة تفهُّم واضح لأسباب النزاع ومعالجتها بجدية.
هذا الخيار هو ما كان يريده الروس منذ البداية عندما أرسلوا إلى الغرب قائمة مقترحات بالضمانات الأمنية قبل أشهر طويلة من بدء النزاع، ولكن واشنطن ولندن اختارتا الدفع بكييف إلى مواجهة عسكرية، ليكون التحرك الروسي سببا في عسكرة كل دول الناتو التي كانت تتبع الاتحاد السوفييتي سابقا، وإعداد أوروبا لحرب عالمية جديدة.
لم يكن وأد خطط العملية العسكرية في مهدها أمرا مستحيلا.. كان يتطلب من أوكرانيا أن تلتزم الحياد تجاه الروس والغرب.. كان يمكن لها ألا تنتمي لأي من الطرفين، فتعيش منطقة حدودية بين روسيا والناتو كدولة من دول عدم الانحياز، فلا تكون جبهة للروس على الغرب، ولا نافذة للأطلسي على موسكو.
الوصول بأوكرانيا إلى الحياد لا يزال ممكناً.. صحيح أنه اليوم مُكلفٌ أكثر بكثير، ولكنه قابل للتنفيذ بشرط وجود إرادة غربية وروسية على تحقيقه.. فحسابات العمليات العسكرية تختلف عن حسابات السلم، وما كان ممكنا قبل الرصاصة الأولى أصبح أصعب الآن، ولهذا نسمع الرئيس الفرنسي يقول إن النزاع الأوكراني الروسي "سيكون طويلا ويجب الاستعداد له".
عندما تغلَقُ كل الأبواب سيلجأ الجميع إلى الخيارات الصعبة في التعامل مع هذه الأزمة. فهي بحسب المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، منعطف كبير في تاريخ قارة أوروبا. ما يلي هذا النزاع لن يكون كما قبله أبداً، والمنتصر فيه سيرسم الخط الأول في الخارطة السياسية الجديدة للعالم في المئوية الأولى من الألفية الثالثة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة