ظلت الاستراتيجية الأمريكية، التي أطلقها الرئيس جو بايدن، منذ وصوله إلى "البيت الأبيض" لمواجهة الصين، تثير الكثير من التكهنات حول جدواها والآليات التنفيذية التي تتطلبها كي تصل إلى أهدافها المعلنة.
وأيضا حول المآلات المحتملة على الطرفين وعلى العالم في حال وصول التصعيد إلى ذرى لا يعود فيها الوضع قابلا للسيطرة من قبل أحدهما.
منذ التصعيد الواسع بين واشنطن والناتو من جانب، وروسيا من جانب آخر على خلفية الأزمة الأوكرانية وصولا إلى الصراع الروسي الأوكراني، تراجع حديث الرسميين الأمريكيين وأوساطهم الإعلامية عن مخاطر التحدي الصيني لواقع ومستقبل بلادهم اقتصاديا وتجاريا وسياسيا.
الصين عنوان التحول التاريخي في نهج واشنطن، هذا ما تبرهن عليه السلوكيات والمواقف السياسية الأمريكية في أبعادها الدولية والإقليمية.. رصدت لها ما أوتيت من مضخات إعلامية وأدوات تصعيدية وسياسات تنافسية دون الوصول حتى الآن إلى حالات احتكاك في ساحات مفترضة للمواجهة.. لم تظهر إلى العلن خطوات عملية من جانب واشنطن لمعالجة أو مواجهة التمدد الصيني اقتصاديا وتجاريا.
ليست لدى الإدارة الأمريكية أي نافذة تتسلل منها لاستفزاز الصين تحت أي عنوان، عسكريا أو مدنيا، ولكن تحضر في أجندة الأمريكيين بعض الملفات كلما احتاج الصوت الأمريكي إلى نغمة يرددها للإيحاء بسخونة الأجواء مع غريمتها. انتهجت الولايات المتحدة الأمريكية مساراً التفافياً في نهجها ضد الصين.
بلورت اتفاق "أوكوس" بحوامله السياسية والعسكرية، وربما الأهم الجيو سياسية ضمنه. بدت متمهلة في الانتقال إلى مرحلة أخرى على صعيد الانخراط الفعلي والعملي في مقارعتها لها.. إنها في مرحلة الحشد دون ضجيج وصخب تحسبا لدفع الصينيين إلى خيارات أو أن تسلك دروبا معرقلة لاستراتيجيتها، ليست في حسبانها، أو على الأقل تُشوش على واشنطن وحلفائها الأنجلو ساكسون وخطواتهم، مستعينة بشرايينها التجارية والاقتصادية المرتبطة مع غالبية دول العالم، بمن فيهم حلفاء الولايات المتحدة، لذلك كله يتجنب "بايدن" وفريقه في "البيت الأبيض" استفزاز الصين حتى الآن، ويلجؤون في كثير من المواقف إلى صيغ دبلوماسية.
القادة الصينيون لا يمررون موقفا أمريكيا يتناولهم على أي صعيد إلا ويعلنون ردودهم المعهودة بصيغها المفعمة بالرفض والتحدي وإعادة الكرة إلى ملعب الخصم.
أيُّ هدف ترمي واشنطن لتحقيقه من خلال هذا التكتيك؟
ما يحدث حاليا بين روسيا وواشنطن والناتو يرجّح في جانب منه الفرضية الأهم في ذهنية الأمريكيين، وهي منع تنامي العلاقات الروسية- الصينية، وتحديدا في نطاقها العسكري، والعمل على خلق بؤر توتر واضطراب لكل دولة ضمن مناطق نفوذها الحيوية تشْغلها أو على الأقل تبطئ من خطوات التقارب المقلق لواشنطن.
أوكرانيا مثال على ما تسعى إليه إدارة بايدن في هذا المجال تجاه روسيا، وتايوان وبحر الصين الجنوبي مثال على ما تنوي الولايات المتحدة استثماره في صراعها مع الصين لاحقا.
ما احتمالات بلورة استراتيجية مشتركة صينية أمريكية تتمتع بمرونة قادرة على تحقيق مصالح الطرفين المتناقضة؟
الهدوء الذي يلف جبهات المناكفة بين العملاقين على مدار الأشهر القليلة المنصرمة أبعد ما يكون عن مناخات السلام.. ثمة مشاغل لها الأولوية عند صانع القرار الأمريكي لا تخرج عن سياق الاستعداد الجاد لمرحلة التصعيد المتوقعة مع الصين حين تنضج ظروفها الأمريكية الداخلية، حيث يحل عام الانتخابات النصفية للكونجرس، والخارجية متصلة باستراتيجية مواجهة روسيا في محيطها الجيوسياسي وخارجه، إضافة إلى قضايا المناخ ووباء كورونا وغيرها، بالمقابل لم تغير بكين نهجها المعهود في مقارباتها لمصالحها ولقضايا دولية أخرى رغم سُحُب التهديد والوعيد القادمة من واشنطن، واعتادت على صياغة مواقفها وكأنها على أهبة الاستعداد دائما لأي طارئ يلامس خطوطها أو تخومها.
ثمة عوامل حيوية ثنائية وأخرى عالمية، تفرض على صانعي القرار في كلا البلدين ضرورة أخذها في الحسبان، اقتصادية وتجارية وجيواستراتيجية، لأن ارتدادات أي مواجهة، حرب باردة أو مواجهة ساخنة، لا بد أن تصيب غالبية دول العالم بهزات سلبية يصعب تصور عواقبها أو نهاياتها.
عمق العلاقات التجارية والتبادل التجاري بينهما يشكل رافعة صلبة لحمولات السياسة وبرمجتها كي تصب في سياق التفاهم الثنائي المشترك، وطرح كل ما من شأنه تعطيله، وتحديدا من قبل الجانب الأمريكي، فالأصوات الداعية إلى التقارب والتفاوض أكثر من تلك التي تقرع طبول الحرب، والتصعيد قد يفضي أحيانا إلى مستقر آمن وليس بالضرورة الانزلاق إلى متاهات الصراع، ولطالما حدد الاقتصاد بوصلة السياسات والسياسيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة