واشنطن لا تزال تراهن على تغيير سلوك النظام الإيراني عبر الضغط عليه سياسيا واقتصاديا وتأجيج الاحتجاجات ضده داخليا وتفكيك دائرة تحالفاته.
المتتبع للتصريحات العدائية المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في الأيام القليلة الماضية وما تحمله من تهديد ووعيد متبادل قد يصل إلى قناعة بأن الأمر قد لا يقف عند حدود الكلام بل قد يتعداه إلى ميادين الحروب وساحاتها، ولعل ما يغذي هذه القناعة لدى البعض هو ثلاثة أمور؛ أولها أن هذه التصريحات جاءت على لسان قادة البلدين وأكبر المسؤولين فيهما، ففي إيران تشابهت تصريحات كل من علي خامنئي وحسن روحاني وعلي لاريجاني وقاسم سليماني ومحمد علي جعفري، أي أن كل مؤسسات النظام الإيراني حملت رأيا واحدا فيما يتعلق بالنظرة إلى أمريكا والمواجهة المحتملة معها، لا فرق في ذلك بين مؤسسة المرشد أو مؤسسة الرئاسة أو السلطة التشريعية أو المؤسسات الأمنية والعسكرية، كذلك الحال فيما يتعلق بالجانب الأمريكي الذي تشابهت فيه تصريحات دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو ومستشاره للأمن القومي جون بولتون حول إيران، في دلالة واضحة على أن ازدواجية المواقف الأمريكية حول إيران التي ميزت إدارة ترامب أثناء وجود ريكس تيلرسون على رأس وزارة الخارجية الأمريكية ولت بلا رجعة وولت معها ازدواجية التصريحات التي أصابت المراقبين بالحيرة في تبين حقيقة الموقف الأمريكي من إيران.
واشنطن لا تزال تراهن على تغيير سلوك النظام الإيراني عبر الضغط عليه سياسيا، وتضييق الخناق عليه اقتصاديا، وتأجيج الاحتجاجات ضده داخليا، وتفكيك دائرة تحالفاته التقليدية دوليا، ومحاصرة نفوذه إقليميا والتصدي لمحاولاته التوسعية في المنطقة عبر تشكيل تحالف دولي جديد
الأمر الثاني أن تلك التصريحات المتبادلة وصلت إلى مستوى غير مسبوق في حدتها وفي مفرداتها وفيما انطوت عليه من رسائل مباشرة في تحذيرها وتهديدها ووعيدها، إلى حد يمكن أن نصفه بأننا نعيش مرحلة الحرب الكلامية بين الطرفين التي قد تتطور في أي لحظة إلى حرب فعلية، فما بين رسالة إيرانية على لسان روحاني محذرة لترامب بـ"عدم اللعب مع ذيل الأسد لأن الحرب بين البلدين ستكون أم الحروب"، ورد أمريكي حاسم عليها على لسان ترامب حمل نصا "إياك أبدا أن تهدد الولايات المتحدة مرة أخرى وإلا فستواجه عواقب لم يختبرها سوى قلة عبر التاريخ"، وما بينهما وما سبقهما وما لحقهما من تصريحات.. حبس العالم أنفاسه ترقبا للأسوأ.
الأمر الثالث الذي غذى انطباع تحول الحرب الكلامية إلى حرب حقيقية هو ما بدا أنه "تسريب مقصود" لتقرير استخباراتي أسترالي ذكر أن الإدارة الأمريكية تستعد لقصف المنشآت النووية الإيرانية في وقت مبكر من شهر أغسطس المقبل بمساعدة حلفائها لا سيما أستراليا، وحدد التقرير المرافق الدفاعية الأسترالية التي يمكن أن تلعب دورا في تحديد المواقع الإيرانية التي يمكن أن يتم استهدافها في الضربة الأمريكية، وذكر التقرير تحديدا قاعدة "باين جاب" في شمال أستراليا، وهو موقع سري متاح للقوات الخاصة الأمريكية والبريطانية والأسترالية والكندية والنيوزيلندية، وما عزز من مصداقية التقرير لدى كثير من المراقبين أمرين؛ أولهما أن الجهة التي بثته كانت هيئة الإذاعة والتلفزيون الوطنية في البلاد (أيه بي سي) نقلا عن مسؤولين رفيعي المستوى بالمخابرات الأسترالية، الأمر الآخر أن رئيس الوزراء الأسترالي مالكولم تيرنبول في معرض تعليقه على التقرير لم يقم بنفيه وإنما وصفه بأنه مجرد "تكهنات".
لكن هل يعني كل ما تقدم من إشارات أن الضربة الأمريكية لإيران اقتربت بالفعل وأنه أصبح لا مجال لتفاديها؟
في تقديري الشخصي أن الولايات المتحدة في ظل النسخة الثانية المعدلة من إدارة ترامب لم تسقط الخيار العسكري ضد إيران من حساباتها، لكنها ربما قد تبقيه خيارا ثانيا أو ثالثا، نظرا لتكلفته العالية سياسيا واقتصاديا، لا سيما في ضوء الخبرة الأمريكية السلبية التي رسختها تجارب الماضي القريب والبعيد التي شهدت تدخلات مسلحة لأمريكا خارج حدودها، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، فواشنطن لا تزال تراهن على تغيير سلوك النظام الإيراني عبر الضغط عليه سياسيا، وتضييق الخناق عليه اقتصاديا، وتأجيج الاحتجاجات ضده داخليا، وتفكيك دائرة تحالفاته التقليدية دوليا، ومحاصرة نفوذه إقليميا والتصدي لمحاولاته التوسعية في المنطقة عبر تشكيل تحالف دولي جديد تكون الغلبة فيه للدول العربية المتضررة من الممارسات الإيرانية، وهي كلها ضغوط لو نجحت سترغم إيران على إعادة التفاوض وصولا إلى اتفاق جديد يعالج مجمل التهديدات الإيرانية لأمن واستقرار المنطقة وليس فقط ملفها النووي ويجبرها على تغيير سلوك نظامها، وبالتالي يظل خيار اللجوء إلى العمل العسكري ضد إيران رهينا بأمرين.. إما فشل الخيارات الأخرى التي سبقت الإشارة إليها، وإما إقدام إيران على خطوة متهورة كإغلاق مضيق هرمز، فالقوات الأمريكية والقوات الحليفة التي ستعيد فتح المضيق بعد ساعات من إغلاقه لن تكتفي بذلك بكل تأكيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة