تدفع الأحداث الساخنة الجارية في الولايات المتحدة الأمريكية للتساؤل: هل ذاك البلد الإمبراطوري يعيش أزمة قيادة أم يعاني من مشكلة هوية؟
ما دفعنا لهذه السطور، التقرير الأخير الذي صدر عن معهد "غيتستون" في مدينة نيويورك الأمريكية، وفيه قراءة للدبلوماسي الأمريكي السابق، "بيتر هويكسترا "، خلاصتها أن المزيد من الأمريكيين لا يثقون - على نحو متزايد - في القيادة الأمريكية، في جميع المجالات .
الأرقام لا تكذب ولا تتجمل، ذلك أن 21% من الأمريكيين فقط، هم من يرون أن الحكومة الأمريكية تعمل في الاتجاه الصحيح، فيما كانت هذه النسبة 49% في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من عام 2001.
هل إدارة بايدن مسؤولة بنوع خاص عن مثل تلك النتيجة؟
يبين آخر استطلاع رأي لجامعة "مونماوث" أن 25% من الديمقراطيين فقط يريدون ترشح الرئيس بايدن للانتخابات الرئاسية في 2024، والعهدة على صحيفة "ذا هيل" الأمريكية، بينما 44% ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن على بايدن التنحي وترك شخص آخر في حزبه للترشح.
يبدو مشهد فقدان الأمريكيين للثقة في قيادتهم متجاوزاً لبايدن وأزمات إدارته، لا سيما بعد أن باتت النظرة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، تنحصر في كونها أدوات في أيدي كبار الرأسماليين، وذوي التوجهات الاقتصادية النيوليبرالية .
في كتابها المعنون "السيطرة الصامتة - الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية"، تقول نورينا هيرتش، الأكاديمية الإنجليزية المتخصصة في علوم الاقتصاد: "إن عالما فيه رئيس أمريكي يصدر القانون بعد القانون المحابي لمصالح الشركات الكبرى، وفيه لروبرت ميردوخ، رجل الإعلام الأسترالي الأصل، سلطان لا يحد ويمد، وتضع فيه الشركات الكبرى الأجندة السياسية، إنما هو عالم مخيف وغير ديمقراطي، وقد تبدو فيه فكرة أخذ الشركات الكبرى دور الحكومة سائغة من بعض الجوانب".
ما يجري اليوم في الداخل الأمريكي من فقدان لمعايير الديمقراطية الأمريكية، والاستغلال الواضح والفاضح للسلطة، يفقد الأمريكيين الثقة في قيادتهم وعن حق، وعلى غير المصدق أن يتتابع المسلسل الهزلي الدائرة حلقاته حول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
باختصار غير مخل، قد لا يكون ترامب الرجل الطهراني البيوريتاني، المقترب من درجة القداسة، هذا صحيح، لكن على الجانب الآخر، تبدو مطاردة الساحرات ماضية في إثره منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، واتهامه من ثم بالعمالة لروسيا، ذلك الاتهام الذي لم يقم عليه دليل، أو وجد بشأنه برهان واضح.
السعي وراء ترامب، ومحاولة إدانته بات الشارع الأمريكي يتفهمه على وجهه الصحيح، الخاص بإقصائه من طريق الرئاسة الأمريكية القادمة في 2024، بأي شكل ممكن، حتى لو لزم الأمر التلاعب بمقدرات السلطة.
القيادة الأمريكية اليوم مأزومة، وهو الأمر الذي دفع نائب الرئيس السابق، مايك بنس، للحديث عن سلوكيات إدارة بايدن، وكيف أنها تعطي من أطلق عليهم الأنظمة الاستبدادية حول العالم، مثالاً لتغول السلطة، وضرب عرض الحائط بالأعراف السياسية، وقد كان مقام الرئاسة الأمريكية مصوناً حتى وقت قريب من نهاية التسعينيات، حين تم رفض مشروع عزل بيل كلينتون، بخلاف ما حدث من نانسي بيلوسي والديمقراطيين في الأيام الأخيرة من حكم ترامب، والتصميم على إقرار قانون بعزله، ولولا وجود أغلبية جمهورية في مجلس الشيوخ، لكان أول رئيس يعزل في تاريخ أمريكا.
أزمة الداخل الأمريكي في واقع الأمر، لا تتصل بنسق القيادة المتراجع فقط، أو غياب القادة الكاريزماتيين، بل يمتد إلى معضلة أخطر وأكثر هولاً، إنها إشكالية هوية، تثبت الأيام أن فلسفة "بوتقة الانصهار"، لن يقدر لها الذهاب بعيداً في مستقبل الدولة الاتحادية الواحدة.
يحتاج الحديث عن تلك الأزمة إلى قراءات مفصلة قائمة بذاتها، سيما في ضوء الحركات المتصاعدة للمطالبة بالانفصال في ولايات حدودية كبرى، وبخاصة تكساس وكاليفورنيا.
يبدو أن ما جرى في الكابيتول، نهار السادس من يناير/كانون الثاني من عام 2021، كان مؤشراً واضحاً على انعدام الثقة في الحكومة، من جهة، وتفاقم أزمة الهوية من جهة ثانية.
ما الذي يمكن أن يحدث لو سرع المدعي العام لنيويورك، ألفين براغ، من محاكمة ترامب، والحكم عليه بقسوة؟
وماذا لو نجح ترامب مع ذلك في الفوز برئاسة البلاد، وهو احتمال قائم بصورة أو بأخرى، سيما في ظل الإصرار الديمقراطي على مكايدة الجمهوريين سياسياً؟
لن تضحى أزمة القيادة وقتها هي الشغل الشاغل، بل أزمة الهوية، وبدايات ثورات الاحتراب الأهلي الأمريكي الداخلي، وغداً لناظره قريب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة