مرّ أكثر من عام على الحرب الروسية الأوكرانية. وفي تصويت أجري الشهر الماضي في الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة الذكرى السنوية للحرب، أدانت 141 دولة من بين 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، هجومَ روسيا على أكرانيا مجدداً.
ولكن حول كيفية حلّ هذه الأزمة، لم يكن هناك إجماع في الرأي؛ لا بين الدول التي قامت بإدانة الحرب على أوكرانيا، ولا بين التي لم تدن، واختلفت الآراء بين هذه الدول بشكل ملحوظ.
لم تُحدِث الأسلحة الضخمة التي قدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، الفارق المتوقَّع في دفع روسيا إلى الوراء. وفشلت كذلك العقوبات الاقتصادية ضد روسيا في تحقيق النتائج المستهدفة، بل هزت هذه العقوبات اقتصاد الدول الغربية بشدة، وأثارت تساؤلات حول استدامة الوحدة والتضامن في الجبهة المناهِضة لروسيا.
وبالتالي، ينبغي ألّا نتغاضى عن الاضطرابات السياسية والاقتصادية الخطيرة في الولايات المتحدة؛ حيث تحاول إدارة بايدن من ناحيةٍ الحفاظَ على الجبهة المعادية لروسيا، ومن ناحية أخرى، تحاول منع دونالد ترامب وأنصاره من استعادة السلطة. كما أن أزمة البنوك التي وقعت مؤخراً، راحت تُجهد اقتصاد الولايات المتحدة وتشوه سمعة الدولار.
وأيضًا، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن مع نهاية عام 2023، ستبدأ عملية الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وأن الحزب الديمقراطي لم يخطُ خطوات ذات قيمة حتى الآن تتعلق بتسمية المرشحين لديه. أضف إلى ذلك، حقيقة أن الرئيس السابق دونالد ترامب لم يخضع بعدُ لأي مساءلة قضائية، ما يعني أن الولايات المتحدة قد تضطر في الفترة المقبلة، إلى التركيز على الاضطرابات السياسية المحتملة في البلاد قبل التركيز على المشاكل العالمية.
وبينما نتابع انجرار الصراع الروسي الأمريكي إلى طريق مسدود يوماً بعد يوم، نرى الصين -في المقابل- شرعت بتحقق إنجازات مثيرة للاهتمام رغم الحرب الباردة التي بدأتها الولايات المتحدة ضدها؛ في الأيام الأخيرة، توسطت الصين في استعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. وقد أدت هذه الوساطة الناجحة إلى مفاجأة كبيرة لدى الرأي العام في العالم.
وبعد ذلك، قام الرئيس الصيني "شي جين بينغ" للمرة الأولى منذ بدء الحرب على أكرانيا، بزيارة لروسيا استغرقت 3 أيام. وخلال اجتماع "شي جين بينغ" مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، تمت مناقشة خطة السلام المكونة من 12 مادة، التي عرضتْها الصين لإنهاء الحرب الأوكرانية. قال بوتين -حينها- إنهم قاموا بدراسة الخطة بالتفصيل، وخاطب "شي" بوتين بـ"صديقي العزيز"، ثم أشاد بـ"القيادة القوية" لبوتين، مؤكدًا أنه واثق من أن الشعب الروسي سينتخب بوتين من جديد رئيساً له في عام 2024. ثم شدد "شي" على أهمية العلاقات الوثيقة بين روسيا والصين. وبالتالي، تم خلال اجتماع الزعيمين في موسكو، التوقيع على اتفاقية "تعميق الشراكة الشاملة".
من خلال هاتين الخطوتين، أظهرت الصين لمنافسيها أن لديها أوراقاً رابحة مهمة يمكن أن تغير التوازن في الحرب الباردة المستمرة مع الولايات المتحدة. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه قبل بضع سنوات، قامت الصين بتوقيع اتفاقية تعاون اقتصادي مع إيران بقيمة 400 مليار دولار. ومن الواضح أن الصين ستستخدم هذه الاتفاقية المهمة بشراء النفط من إيران، لإيجاد وسيلة بين السعودية وإيران، ومن ثم لتعزيز احتياجاتها من الطاقة من خلال النفط السعودي. ومن المحتمَل أيضًا، أن الصين ربما تهدف بهذه الخطوة، إبعاد السعودية عن الولايات المتحدة بعد توتر علاقاتهما مؤخراً.
من جانب آخر، يمكن النظر إلى خطوة الوساطة الصينية، على أنها رسالة إلى روسيا بإظهار أن لديها مصادر بديلة لمشترياتها النفطية من روسيا. ومن المعروف أن ما يقرب من نصف الإيرادات السنوية لروسيا تأتي من مبيعات النفط والغاز.. فمن خلال كل هذه المساعي والمبادرات، استطاعت الصين وبطريقة سلمية، جذبَ دولتين تعانيان من مشاكل مع الغرب.
ثم أظهرت الصين بهذه المبادرات، أنها مستعدة لأن تكون جهة فاعلة تصالحية في أمور بعيدة عن منطقتها. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن الصين إذا تمكّنت بعد اتفاق إيران والسعودية، من خطوة أخرى نحو تحقيق السلام العالمي، فلا ريب أن ذلك سيمنحها مكانة مرموقة، ويفتح أمامها أفاقاً شاسعة في التوازن العالمي.
أما زيارة الزعيم الصيني لروسيا في وقت تتعرض فيه موسكو لضغوط دولية كبيرة، هي في حقيقة الأمر دعم واضح لروسيا وزعيمها بوتين. كما أن عرْض الصين أثناء هذه الزيارة خطةَ سلام لوقف الهجوم الروسي على أوكرانيا، يشير إلى أن أساس دعمها لروسيا يتغيا تحقيق هدف سلمي. ومن خلال هذا الدعم ترسل الصين رسالة إلى العالم، تتضمن وجوب احترام سيادة جميع الدول (أي أوكرانيا)، وأيضاً وجوب احترام "المخاوف الأمنية المشروعة" للدول الأخرى (أي روسيا)، وهي خطوة دبلوماسية بارعة في حقيقة الأمر.
إن زيارة "شي جين بينغ" لموسكو تتضمن أيضًا وبوضوح رسالة إلى الولايات المتحدة؛ حيث بيّن "شي" أن روسيا ليست وحيدة في مواجهتها الولايات المتحدة والغرب. كما أن الكرملين المضطر إلى رفع حجم تجارته مع الصين ولا سيما في قطاع الطاقة، كان بحاجة ماسة إلى مثل هذه الرسالة لمواجهة العقوبات الغربية والحفاظ على اقتصاده.
وعلى الرغم من الرسائل الحادة من الرئيس "بايدن"، ثم تصريحات الأمين العام لحلف الناتو "ينس ستولتنبرغ" بأنه يتوجب على الدول الغربية الاستعداد لصراع طويل الأمد في أوكرانيا؛ تمسّك "شي" بخطاب المصالحة والسلام، وأكد أن الصين لا تؤيد الصراع. وفي السياق نفسه، لم تُهمل الصين التأكيد على أنها لا تؤيد توريد الأسلحة المباشر إلى روسيا.
يمكن القول أيضاً، إن تصريحات "شي جين بينغ" المتكررة حول صداقته الشخصية مع بوتين خلال زيارته، هي اختيار مقصود يهدف إلى إزعاج الولايات المتحدة. أو هي تصريحات تهدف إلى إشعار الولايات المتحدة بنفس الانزعاج الذي شعرت به "بكين"، عند زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي "نانسي بيلوسي" إلى تايوان العام الماضي، على الرغم من معارضة الصين.
اليوم، أصبحت الصين أعظم قوة اقتصادية في العالم، تتبوأ مكانة مرموقة في التكنولوجيا، وتحاول أن تلعب دوراً مهيمناً في مجال الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا الفضاء، وإدارة المحيطات وموارد القطب الشمالي.. لذا تعتبرها الولايات المتحدة تهديداً لها، وتحاول مواصلة الحرب الباردة التي بدأتها؛ لمنع الصين من أن تصبح أقوى دول العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة