مثالية أم حسابات استراتيجية.. لماذا تخلت أمريكا عن الأسلحة البيولوجية؟

رغم تخلي واشنطن رسميًا عن برنامجها الهجومي للأسلحة البيولوجية قبل نصف قرن، تكشف الوثائق عن أن القرار كان مزيجًا من المثالية الواقعية والمخاوف الاستراتيجية العملية، تاركًا باب الأبحاث الدفاعية مفتوحًا على مصراعيه.
وعلى عكس الاعتقاد السائد بأن التخلي عن الأسلحة البيولوجية كان قرارًا أخلاقيًا بحتًا، تشير الوقائع إلى أن الولايات المتحدة اتخذت هذا المنحنى لأسباب عملية بالغة تمثلت في صعوبة السيطرة على هذه الأسلحة، وعجزها عن التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، والمخاطر الجسيمة لتداعياتها غير المحسوبة، وفقًا لتقارير وتحليلات تاريخية، منها مجلة "ناشيونال إنترست".
سباق التسلح السري
تعود جذور البرنامج إلى حقبة الحرب العالمية الثانية، حيث أنشأت الولايات المتحدة مختبرات بحثية سرية في "فورت ديتريك" بولاية ماريلاند عام 1943. ومع تصاعد التوترات في الحرب الباردة، تسارعت وتيرة البرنامج بهدف تطوير ترسانة بيولوجية هجومية.
وبحلول ستينيات القرن الماضي، نجح العلماء الأمريكيون في تحويل سبعة عوامل بيولوجية مميتة إلى أسلحة قابلة للنشر، شملت:
1. الجمرة الخبيثة (Anthrax): أبواغ شديدة المقاومة تسبب الوفاة السريعة عند الاستنشاق وتبقى فعالة في التربة لعقود.
2. الطاعون التولاريمي (Tularemia): بكتيريا شديدة العدوى، تكفي جرعة ضئيلة منها لإصابة الشخص بمرض خطير.
3. الحمى المالطية (Brucellosis): تسبب حمى مزمنة منهكة، ويمكن نشرها عبر الرذاذ.
4. حمى كيو (Q Fever): مسبب مرض يعتقد أنه قادر على تعطيل وحدات القتال لفترات طويلة.
5. التهاب الدماغ الخيلي الفنزويلي (VEE): فيروس يسبب حمى حادة واضطرابات عصبية.
6. سم البوتولينوم (Botulinum Toxin): أحد أخطر السموم المعروفة.
7. سم المطثية العسيرة (Enterotoxin B): يسبب تسممًا معويًا حادًا يعيق القوات.
التجارب المثيرة للجدل: من المختبرات إلى المدن الأمريكية
لم يقتصر العمل على تطوير العوامل البيولوجية نفسها، بل امتد لابتكار وسائل نشرها، مثل القنابل الخاصة، وقذائف المدفعية، وأنظمة الرذاذ الجوي. والأكثر إثارة، أن البرنامج شمل سلسلة من التجارب السرية والعلنية على السكان.
أبرز هذه التجارب كانت في مدينة سان فرانسيسكو، حيث قام الجيش بنشر سحابة من بكتيريا "السراتية الذابلة" التي كان يُعتقد آنذاك أنها غير ضارة - لدراسة أنماط انتشارها. أظهرت وثائق لاحقة أن هذه التجربة قد تكون مرتبطة بحالة وفاة وعدة إصابات بين السكان، مما ألقى بظلال من الشك على الادعاءات الرسمية بسلامة هذه الاختبارات.
القرار الذي غيّر المسار
في مفاجأة استراتيجية، أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1969 وقف برنامج الأسلحة البيولوجية الهجومي الأمريكي بشكل أحادي. ووُصف القرار علنًا بأنه "تخلي تاريخي عن الأسلحة التي يمكن أن تسبب وباءً لا يمكن السيطرة عليه".
لكن التحليل الاستراتيجي يكشف دوافع أعمق مثل إدراك واشنطن أن طبيعة هذه الأسلحة غير المتوقعة تجعلها تهديدًا مزدوجًا، حيث يمكن أن تنتقل العدوى إلى قواتها أو حلفائها، كما أن استخدامها قد يفتح الباب لسباق تسلح بيولوجي وردود فعل كارثية لا تُحمد عواقبها.
وبحلول عام 1973، أكملت الولايات المتحدة تدمير مخزوناتها من الأسلحة البيولوجية الهجومية. وساهم قرار الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في تمهيد الطريق أمام "اتفاقية الأسلحة البيولوجية" الدولية عام 1972، التي حظرت تطوير وإنتاج وتخزين هذه الأسلحة.
غير أن المفارقة تكمن في أن البرنامج لم يُلغَ بالكامل، بل تحوّل حيث حافظت الولايات المتحدة -مثل غيرها من الدول الموقعة على الاتفاقية- على برامج بحثية بيولوجية مكثفة، تُصنف تحت بند "الدفاع البيولوجي"، الذي يهدف إلى تطوير اللقاحات والكشف عن الهجمات المحتملة والاستعداد لها، وهو مجال لا يزال محط تساؤلات ورقابة دولية.