روسيا وحرب المسيّرات.. لعبة إرهاق واستنزاف مستمر لقدرات كييف

في 7 سبتمبر/أيلول 2025، نفّذت روسيا أضخم هجوم جوي منذ اندلاع حربها على أوكرانيا، حيث أطلقت 860 مسيّرة وصاروخًا خلال ليلة واحدة.
كان ذلك اليوم نقطة فارقة في استراتيجية روسيا خلال الحرب الجارية منذ فبراير/شباط 2022، تعكس استغلال واسع لسلاح منخفض التكلفة في إرهاق الخصم.
ولم تقتصر آثار العملية على الأراضي الأوكرانية، إذ عبرت 19 مسيّرة إلى الأجواء البولندية، واستدعى الأمر تدخل مقاتلات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، فيما تكرر المشهد فوق رومانيا.
وبحسب مجلة "فورين بوليسي"، لم تكن هذه مجرد حوادث عابرة، بل جزء من تحول استراتيجي روسي أوسع جعل من المسيّرات الرخيصة والمصنّعة بكثافة العمود الفقري للحملة الجوية.
خلال السنوات الثلاث الماضية، تضاعفت وتيرة الهجمات الروسية بشكل لافت. ففي بدايات الحرب كانت موسكو تطلق ما بين 150 و200 مسيّرة شهريًا، بينما تجاوز المعدل اليوم خمسة آلاف شهريًا، أي أكثر من ألف أسبوعيًا.
وخلال عام 2025 وحده، أُطلقت أكثر من 33 ألف مسيّرة، مقارنة بـ4800 فقط خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
هذه الأرقام تعكس انتقالًا من الاستخدام المحدود إلى الاعتماد المنهجي على المسيّرات كأداة رئيسية في حرب الاستنزاف الطويلة.
ووفق المصدر ذاته، فإن هذا التحول جاء بعد بناء قاعدة إنتاجية واسعة داخل روسيا.
وبعد أن بدأت باستيراد المسيّرات الانتحارية من إيران، أنشأت موسكو خطوط تصنيع محلية في مواقع مثل ألابوغا ومصنع إيجهفسك الكهرو-ميكانيكي، لتظهر لاحقًا نسخ أكثر تطورًا مثل "شاهد-238" و"جيران-3"، بمدى يصل إلى 2500 كيلومتر، ما يمنحها القدرة على ضرب أهداف في عمق أوروبا الوسطى والبلطيق.
التطوير لم يقتصر على المدى، بل شمل إدخال أنظمة خداع وتحسين الأداء بما يتلاءم مع متطلبات الميدان.
والمعضلة التي تفرضها هذه الهجمات لا تكمن في صعوبة اعتراضها بقدر ما تكمن في الكلفة غير المتكافئة.
فبينما لا يتجاوز ثمن المسيّرة الواحدة 50 ألف دولار، فإن كلفة الصاروخ الاعتراضي المستخدم لإسقاطها تصل إلى مئات الآلاف، وهو ما يضع أوكرانيا وحلفاءها أمام معادلة استنزاف خطير: موسكو تنفق القليل لإرهاق الخصم، فيما يضطر الأخير إلى استنزاف موارده الدفاعية بوتيرة متسارعة.
على الجانب الآخر، سعت أوكرانيا إلى تطوير ردها الخاص. فبعد اعتمادها المبكر على مسيّرات "بيرقدار تي بي-2" التركية والمسيّرات التجارية، أنشأت ما يُعرف بـ"جيش المسيّرات"، وهو مظلة توحّد جهود المتطوعين والشركات الخاصة والدولة.
والنتيجة قدرة إنتاجية قد تصل إلى 5 ملايين مسيّرة سنويًا. وعلى الخطوط الأمامية، أصبحت مسيّرات FPV الانتحارية وسيلة مفضلة لتدمير الدبابات والتحصينات بكلفة زهيدة:
كما طوّرت كييف حلولًا تقنية لمواجهة التشويش الروسي، بينها مسيّرات تعمل بالألياف البصرية موصولة بالمشغّلين مباشرة، ما يجعلها محصّنة ضد الحرب الإلكترونية.
وتقوم الاستراتيجية الروسية على نمطين متداخلين: ضربات يومية محدودة العدد تبقي الضغط مستمرًا، وموجات كثيفة تضم مئات المسيّرات والصواريخ في وقت واحد.
ففي عام 2022 كانت روسيا تنفذ هجومًا كبيرًا كل شهر تقريبًا، يضم نحو مئة مسيّرة وصاروخ، لكن بحلول منتصف 2025 ارتفع المعدل إلى 370 مسيّرة كل ثمانية أيام تقريبًا، وأحيانًا بفواصل لا تتجاوز يومين.
الهدف لم يكن تدمير أهداف بعينها، بل إنهاك الدفاعات الجوية وزرع الشك في قدرة الخصم على الصمود.
ورغم أن هذه المسيّرات بطيئة (أقل من 200 كيلومتر في الساعة) ودقتها ضعيفة، فإن قيمتها الاستراتيجية لا تكمن في إصابة الأهداف بدقة بقدر ما تكمن في الاستنزاف المستمر.
وحتى مع نسب نجاح لا تتجاوز 20 في المائة في أفضل الأحوال، تضمن الكثافة العددية اختراقات متواصلة وتحقق أثرًا نفسيًا عميقًا.
وهذا النمط يعكس استمرار العقيدة العسكرية الروسية التي تفترض أن التكنولوجيا تجعل الحروب أقل مركزية وأكثر تفككًا، مع الاعتماد على أدوات الإنهاك طويلة الأمد بدل المواجهات التقليدية المباشرة.
وبهذا المعنى، لا تُستخدم المسيّرات الانتحارية باعتبارها أسلحة دقيقة بقدر ما هي أدوات لحرب نفسية واقتصادية، ترهق الخصم بتكلفة زهيدة وتحقق فاعلية تراكمية تتناسب مع أهداف موسكو في حرب الاستنزاف، وفق المجلة الأمريكية.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMzcg جزيرة ام اند امز