ينتظر العالم كله نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية، خاصة في الساعات الأخيرة منها، ومع تواتر الأخبار التي تعرض مدى تقارب المتنافسين.
بقيت ساعات قليلة علي الثالث من نوفمبر وذهاب الأمريكيين إلى صناديق الاقتراع لكي يحسموا معركة الانتخابات الرئاسية التي امتدت على مدار العام؛ وفي وجهة نظر محللين ومراقبين أنها امتدت على مدى السنوات الأربع الماضية منذ انتخاب دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية. الحقيقة هي أنه من الصعب القول إن الانتخابات تجري بين الرئيس الجمهوري في البيت الأبيض، ومنافسه الديمقراطي جو بايدن، مثلما جرى الحال في الكثير من الانتخابات الرئاسية الأمريكية من قبل. هذه المرة فإن الانتخاب يجري من ناحية على الشرعية الليبرالية الأمريكية كما عبرت عنها المؤسسة الشرقية الأمريكية على مدى العقود الماضية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ ومن ناحية أخرى على مشروعية الرئيس الحالي الذي قاد حركة سياسية واسعة النطاق، يراها كتلة كبيرة من الأمريكيين باعتبارها ثورة كبيرة أعادت الحق إلى نصابه أو باختصار الشعب الأمريكي. ما جرى طوال السنوات الماضية كان فيه قدر كبير من المفاجأة والدهشة لأن الرئيس تحدى الرواسي الرواسخ في السياسة الأمريكية سواء كان ذلك في السياسة الداخلية أو الخارجية. ترامب في عمومه نزع "الأيديولوجية" الليبرالية عن السياسة في واشنطن، ومن زاوية "أمريكا أولا" ذهب إلى سياسات مبتكرة مع كوريا الشمالية والصين وإيران وروسيا خرجت بها عن التقاليد الأمريكية الذائعة والشائعة في عقود قبلها.
مع كوريا الشمالية فتح أبواب الدولة القلعة المحصنة بالانضباط الصارم، والأسلحة الكثيرة، والشعب المدرب والمجهز للقتال في شبه الجزيرة الكورية، والساعي إلى الحصول على أبعد الصواريخ مدي، وأكثرها قدرة على التدمير النووي الشامل. نتيجة فتح الأبواب كانت الاستعداد لجعل كل شبه الجزيرة منزوعة السلاح النووي، وتسوية الحرب الكورية التي كانت لا تزال مستمرة رسميا منذ عام ١٩٥٠. مع الصين فعل ترامب ما لم يفعله رئيس أمريكي من قبل، أو تحديدا منذ فتح ريتشارد نيكسون أبواب بكين خلال الفترة "الماوية". وكان التحدي هذه المرة ليس الانغلاق الصيني، وإنما أن انفتاحها على العالم، ثم دخولها بعد ذلك إلى منظمة التجارة العالمية. وفي كلاهما كانت الصين واقعة تحت لافتة دول العالم الثالث وما توفره لها الاتفاقيات الدولية من امتيازات ومعاملات تفضيلية، نتج عنها تحقيق فائض خرافي في التجارة الدولية لصالح الصين. ومنذ عام ٢٠٠٣ أصبحت الصين تحقق فائضا في ميزانها التجاري مع الولايات المتحدة قدره ٥٠٠ مليار دولار، ومع تراكم هذا الفائض في الأعوام التالية حدث ما وصفة الملياردير الأمريكي وأحد أغنى أغنياء العالم "وارين بافيت" بأنها أكبر عمليات نقل للثروة في التاريخ. لم تكن هناك صدفة أن الصين باتت تحقق على حساب الولايات المتحدة احتياطيات مالية وصلت إلى ١.٨ تريليون دولار. ما وصف بعد ذلك بالحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة كان في جوهره سياسة الرئيس ترامب التي تريد وضع الصين، والتعامل معها، في النظام الاقتصادي العالمي بما يحقق ليس فقط المصلحة الأمريكية وإنما مصلحة دول العالم الثالث أيضا. في ديسمبر ٢٠١٩ توصل ترامب إلى الاتفاق المتكافئ الأول مع الصين؛ وفي نفس الوقت كان قد نجح في تحقيق جذب للاستثمارات الأمريكية في الصين لكي تعود مرة أخرى أو على الأقل تكون توسعاتها التالية داخل أمريكا وليس خارجها. وتوافق مع السياسات الاقتصادية الأمريكية تجاه الصين نظرة كلية للعلاقات الاقتصادية الأمريكية مع جيرانها في المكسيك وكندا من خلال إلغاء اتفاقية "نافتا" والإحلال محلها بمعاهدة جديدة أكثر عدلا للولايات المتحدة.
بطريقة ما كانت السياسة الأمريكية في إدارة ترامب يتجمع فيها ما هو خارجي مع ما هو داخلي، وكان الموقف من الصين ليس بعيدا عن استدعاء الصناعة مرة أخرى إلى الولايات المتحدة بكل ما يعنيه ذلك من فرص للعمل وزيادة في الأجور، وربما الأهم من ذلك كله ما جاء بعد ذلك عند انتشار وباء الكورونا عندما ظهر المدى الذي وصلت إليه الصين في احتكار سلاسل التوريد الأساسية للصناعات في العالم. لم يكن الرئيس الأمريكي يعطي الصين فرصة لكي تكون دولة عظمى كما شاع، وإنما كان يروض السلوك الاقتصادي الصيني الذي جاء على حساب الكثير من دول العالم. ومن ناحية أخرى كان يقوم بنفس الترويض لكل من روسيا وسلوكياتها في الشرق الأوسط ووسط أوروبا، وإيران وسلوكها العدواني في الشرق الأوسط والمدعم برياح تصدير ثورتها ومحاولات الهيمنة الشيعية على العراق وسوريا ولبنان واليمن. ورغم ما يبدو توافقا في وجهات نظر الرئيس ترامب مع الرئيس السابق باراك أوباما في ضرورة الانسحاب من الشرق الأوسط فإن الواقع ليس كذلك. والسبب هو أن ترامب مع تقليص التواجد العسكري الأمريكي في أفغانستان وسوريا والعراق فإنه اقترن بمحاولات جادة لإقامة السلام العربي الإسرائيلي، وتسوية النزاع بين دول الممر والمصب – السودان ومصر- مع إثيوبيا حول مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي.
والحقيقة مرة أخرى هي أن أمريكا تغيرت أثناء فترة ترامب، وجرت إعادة صياغة مؤسساتها، بل إن نظرتها للتاريخ الأمريكي تغيرت أيضا، ولم يكن ذلك ما أراده الرئيس فقط، وإنما كانت موجة سياسية وفكرية عالية كان ترامب معبرا عنها. بمعنى آخر أنه حتى إذا ما ذهب ترامب، وهو محض احتمال، فإن "الترامبية" لن ترحل لأن الكتلة السياسية المعبرة عنها سوف تظل باقية وضاغطة، ولن تسمح بالعودة إلى الوراء من وجهة نظرها مرة أخرى. هذه الكتلة الآن باتت مؤيدة من أغلبية ساحقة في المحكمة الدستورية العليا سوف تكون لديها فرصة زمنية كبيرة لمراجعة الكثير من القوانين الأمريكية التي لا تتوافق مع إرادة ورغبات هذه الكتلة. وطوال السنوات الأربع الماضية أثار ترامب الكثير من القضايا والموضوعات التي كان الأمريكيون يفضلون فيها الحديث سرا أو في دوائر مغلقة تتعلق بالهجرة إلى الولايات المتحدة أو المساواة داخل المجتمع الأمريكي سواء بين البيض والملونين أو بين الرجل والمرأة، أو التدهور الكبير في البنية الأساسية الأمريكية من طرق وجسور وموانئ ومطارات في مقابل السياسات الاجتماعية الموجهة في اتجاه الفقراء والمهاجرين واللاجئين. ترامب أخيرا وليس آخرا حقق طفرة أمريكية كبيرة في مجال الطاقة وفعل ذلك لصالح الأنواع الأحفورية منها، ومع سياسات معتدلة في مجال الإنتاج والأسعار.
ولعل ذلك هو ما سوف تجري الانتخابات عليه، والذي يمثل اختبارا لأمريكا كلها عندما يتم عد الأصوات وتظهر نتيجة الامتحان. فما يأتي به "بايدن" إلى ساحة الانتخابات أمران: أولهما أنه جزء من "المؤسسة الديمقراطية" الأمريكية والتي عاش وسطها ٤٧ عاما عضوا في مجلس الشيوخ متخذا موقفا معتدلا وسطيا في التقسيم الأمريكي بين اليمين واليسار. وثانيهما مشاركته كنائب للرئيس في إدارة أوباما وهو ما أخذه نحو اليسار. اختبار أمريكا هو إما الاستمرار في "ثورة ترامب" أو العودة إلى الخلف مرة أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة