الولايات المتّحدة من أكثر شعوب الأرض تديُّنًا، ولهذا فإنّ الخطاب الدينيّ يؤثّر تاثيرًا قويًّا في توجُّهات وتطوُّرات السياسة الأمريكيّة.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، لعب تيّار اليمين الأمريكيّ، والذي يُعرَف أحيانا باسم "اليهو- مسيحي"، دورًا متقدّمًا على صعيد الحياة السياسيّة الأمريكيّة، ولعلّ هذا ما يدفع البعض إلى التساؤل: "كيف يمكن أن يحدث ذلك في دولة دستورها علمانيّ، ويفصل كلّ الفصل ما بين الشأن الدينيّ والشأن الدنيويّ؟
الشاهد أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة من أكثر شعوب الأرض تديُّنًا، ولهذا فإنّ الخطاب الدينيّ يؤثّر تاثيرًا قويًّا وجذريًّا في توجُّهات وتطوُّرات السياسة الأمريكيّة.
هذا التديُّن لم يبدأ منذ بضعة عقود، وإنّما منذ هجرة الأوربيّين البيوريتانيّين، أو الأطهار، إلى أمريكا، كنعان الجديدة، أو أرض الموعد منذ العام 1620 على متن السفينة الشهيرة "ماي فلاور". ولهذا يمكن القطع بأنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة دولة علمانيّة الهويّة دينيّة الهوى بامتياز، ولهذا فإنّ أغلبيّة الأمريكيّين يعتبرون أمريكا حصن المسيحيّة في العالم، وعليهم رسالة إلهيّة يجب إبلاغها لبقيّة شعوب العالم.
على أنّ هذا التوجّه الدينيّ السياسيّ، ارتفع مدُّه على نحو خاصّ في فترة حرب فيتنام نهاية الستّينات وبداية السبعينات، فقد روَّجَ المنظِّرون اللاهوتيّون للحركات الدينيّة اليمينيّة رؤية أنّ الله غاضب على أمريكا بسبب ابتعادها عنه، بينما هو يقف مع دولة إسرائيل، ولهذا انتصرت بشكل كبير في حرب الستة أيّام عام 1967.
كان التجلّي الأكبر للإنجيليّين الأمريكيّين في زمن الرئيس الجمهوريّ رونالد ريجان، والذي اعتبر أنّ رئاسته ستشهد نهاية العالم في معركة هرمجدون، ومن بعده جاء الرئيس بوش الابن والذي اعتبر أنّ الحروب التي قام بها كانت بإرشاد وتوكيل روحانيّ، وله تصريحات كثيرة ومثيرة في هذا الاطار.
لم يكن الرئيس ترامب في واقع الأمر على علاقة عميقة بهذه الجماعة الإيمانيّة الأمريكيّة ذات النفوذ والقوة، والتي تملك المئات من محطات التلفزة الكبيرة عبر البلاد، وضعفها من الإذاعات، ناهيك عن سطوتها الهائلة عبر وسال التواصل الاجتماعيّ، ما يجعل منها قوّة انتخابيّة وتصويتيّة كبيرة ومؤثّرة، وقد وجد فيها الرئيس ترامب في كلّ الأحوال داعمًا قويًّا في مواجهة التيّارات النيوليبراليّة، والحركات اليساريّة، وبقيّة الجماعات الراديكاليّة والأوليجاركيّة التي تسعى لإخراجه من البيت الأبيض عمّا قريب وحرمانه من الفوز برئاسة ثانية.
على أنّ علامة الاستفهام محور هذه السطور: "هل سيدعم هذا الإنجيليّون المحافظون الرئيس ترامب في نوفمبر القادم ليظلّ في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، أم سيتخلّوا عنه ممّا يعرّض فرصته في إعادة الانتخاب لخطر حقيقيّ؟
الحقائق المؤكَّدة تخبرنا أنّ التيارات المسيحيّة المحافظة قد اكتسبت نفوذًا كبيرًا في البيت الأبيض عقب وصول ترامب إلى السلطة، إذ إن بعض هذه التيّارات تعقد جلسة أسبوعيّة لأداء الصلوات مع الرئيس ترامب داخل البيت الأبيض.
ولعل الإحصاءات تخبرنا بأن الرئيس ترامب قد فاز بنسبة 80% من الأصوات الإنجيليّة البيضاء في انتخابات العام 2016، أي إنّه حصل على أعلى ممّا حصل عليه المرشَّحان الجمهوريّان للرئاسة، ميت رومني وجون ماكين، في الانتخابات السابقة.
هنا يبدو السؤال ومن جديد: "هل يكون ترامب حصان طروادة لهذه الجماعة الأمريكيّة ذات الثقل الإستراتيجيّ على أصعدة عدّة، ومنها بنوع خاصّ الثروة، حيث يشجع أنصار هذا التيار الثراء، بل يرون أنّه نوع من البركة الربّانيّة العلويّة، لكن من يسير هذا المسار، ويدعم داعميه؟
الولايات المتّحدة الأمريكيّة من أكثر شعوب الأرض تديُّنًا، ولهذا فإنّ الخطاب الدينيّ يؤثّر تاثيرًا قويًّا وجذريًّا في توجُّهات وتطوُّرات السياسة الأمريكيّة.
هناك ولا شكّ أشكال من الشطط الفكريّ وربّما الروحي تجري بها المقادير ونحن بين يدي هذا المشهد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، صرخت "باولا وايت" المستشارة الروحيّة الخاصّة بالرئيس ترامب، في إحدى عظاتها المتلفزة قائلةً: "أن تقول لا للرئيس ترامب، معناه أنّك تقول لا للربّ".
كان من الواضح أنّ الرئيس ترامب يعزف جيِّدًا على وتر هذا النهج الروحيّ لاكتساب الأصوات، ففي نوفمبر من عام 2019 عين ترامب، باولا، على رأس ما يُعرَف بمبادرة البيت الأبيض للإيمان والفرص، والقسّيسة باولا، هي واحدة من أثرى وأبرز وجوه التبشير التلفزيونيّ الإنجيليّ في الولايات المتّحدة، ولم يكن الأمر يخلو من إشارة إلى رهانات الرئيس ترامب على نحو 80 مليون أمريكيّ إنجيليّ يسعون إلى إعلاء الصوت الدوجمائيّ في مباشرتهم لأعمال السياسة.
على أنّ الرياح، وكما يُقال، لا تأتي دومًا بما تشتهيه السفن، إذ يبدو أنّ هناك جدلاً حول موقف الإنجيليّين الأمريكيّين من الرئيس ترامب، لا سيّما بعد استقالة الصحافيّ الأمريكيّ البارز "ناب نازورث"، من مجلة "كريستيان توداي"، ذائعة الصيت، والتي تهتمّ بالشأن المسيحيّ أمريكيًّا وعالميًّا، ومردّ الاستقالة كان مقال رئيس تحرير المجلة "مارك غالي"، والذي طالب فيه ترامب بالاستقالة أو طرده من البيت الأبيض، ووصف الأمر بأنّه "ضرورة حتميّة مسيحيّة"، وقد كتب غالي يقول: "ليست مسألة الولاءات الحزبيّة، ولكنّ الولاء لله معطي الوصايا العشر".
كان غالي يشير إلى قصّة علاقة ترامب برئيس أوكرانيا، ولهذا أشار في عمق مقاله إلى أن: "ترامب حاول استخدام سلطته السياسيّة لإكراه رئيس أجنبيّ، لمضايقة وتشويه سمعة أحد خصوم الرئيس السياسيّين، في إشارة إلى جوزيف بايدن المرشَّح الديمقراطيّ، وقد اعتبر غالي أن هذا: "ليس انتهاكًا للدستور فقط، لكنّ الأهمّ أنّه أمر غير أخلاقيّ بالمرّة".
ما جرى عبر "كريستيان توداي"، المجلة ذات التأثير العميق روحيًّا على الأمريكيّين المسيحيّين، حتّى من خارج السياق الإنجيليّ، أي الكاثوليك الأمريكيّين، والذين يُعَدُّون نحو 24 % من سكان البلاد، ربّما يكون قد ترك تأثيرًا ما على القوة التصويتيّة لهذه الجماعة لصالح ترامب، لا سيَّما وأنّها ذهبت في طريق أبعد من ذلك حيث أدانت "الإنجيليّين الذين ما زالوا يدعمون الرئيس على الرغم من سجلّه الأخلاقيّ الأسود"، على حدّ تعبيرهم.
على الرغم من ذلك، فإنّ وجود "مايك بنس المبشِّر الإنجيليّ"، كنائب للرئيس، و"مايك بومبيو"، وزير الخارجيّة، الذي لا ينفكّ يربط المشهد السياسيّ الأمريكيّ، بل وترامب شخصيًّا بالأقدار والروحانيّات والكتب الدينيّة، أمران سيكون لهما كبير الأثر عند التصويت في نوفمبر القادم، لا سيّما أنّ هناك مساحة فاصلة بين ترامب من الناحية العقديّة، وبين منافسه جوزيف بايدن والذي يعلم الجميع أنّه لن يكون سوى ولاية ثالثة لباراك أوباما، الرجل الذي دعم التيارات الأصوليّة، وهذا حديث آخر،إلى اللقاء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة