مع تبني الإدارة والكونجرس أضخم برنامج للإنعاش الاقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة بنحو 2.2 تريليون دولار، سرعان ما خفت معدلات البطالة الشهرية خاصة في شهر مايو.
حتى شهر يناير الماضي كان بوسع البيت الأبيض الزهو بأقل معدلات بطالة تشهدها الولايات المتحدة منذ نحو خمسين عاما، وهو ما كان نتيجة لأطول فترة تاريخية متصلة من النمو الاقتصادي الأمريكي والمستمرة منذ يونيو عام 2009 وحتى فبراير 2020. وكان الرئيس ترامب يعتمد بشدة على هذا الأداء الاقتصادي كأفضل إنجاز يقدم به نفسه لجمهور الناخبين لإعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية.
ولكن لا تأتي الرياح دائما بما تشتهي السفن، إذ سرعان ما أتى تفشي فيروس كورونا ليقلب الأوضاع رأسا على عقب، فارتفعت معدلات البطالة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق منذ الكساد العظيم في نهاية عشرينيات القرن الماضي، وأغلقت العديد من الأنشطة الإنتاجية والخدمية ليسجل الاقتصاد ركودا عميقا خاصة خلال الربع الثاني من العام الجاري. ومع تبني الإدارة والكونجرس أضخم برنامج للإنعاش الاقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة بنحو 2.2 تريليون دولار، سرعان ما خفت معدلات البطالة الشهرية خاصة في شهر مايو، وكان هناك تفاؤل شديد بعودة التعافي الاقتصادي سريعا، بعد فتح الكثير من الأنشطة للعمل مرة أخرى وتخفيف ظروف الحظر والإغلاق التي كانت مفروضة. وهو ما كان يدفع الإدارة إلى القول بأنها مع تبنيها برنامج إنعاش اقتصادي غير مسبوق كان لها الفضل في استعادة الاقتصاد الأمريكي لمصادر قوته سريعا وعودة العاملين لأعمالهم.
ومرة أخرى ثبت أن هذا الاستنتاج متعجل بعض الشيء، وبدا أنه كانت هناك حالة تسرع في إعادة فتح مجال الأعمال مما دفع لتسجيل أرقام ضخمة من حالات الإصابة بفيروس كورونا وفي عدد ضحاياه. مما دفع نحو التشاؤم من مستقبل التعافي الاقتصادي مرة أخرى.
بطالة مرتفعة وانتهاء أجل مدفوعات سخية
ارتفعت طلبات إعانة البطالة في الأسبوع الثاني من يوليو لأول مرة منذ ما يقرب من أربعة أشهر، وهو ما يقدم مؤشرا مزعجا بأن الاقتصاد يعاني من حالة انتكاس مع زيادة حالات الإصابة بفيروس كورونا منذ شهر يونيو. فبعد الزيادة الهائلة في مطالبات إعانة البطالة في شهر مارس انخفضت مطالبات إعانة البطالة بشكل حاد قبل أن تشهد استقرارا خلال شهر يونيو. ولكن في يوم الخميس 16 يوليو أعلن مكتب العمل عن تقديم نحو 1.4 مليون مطالبة للاستفادة من إعانة البطالة خلال أسبوع وهو ما يزيد عن مطالبات بلغت نحو 1.3 مليون فقط خلال الأسبوعين السابقين على ذلك. كما تم تقديم 975 ألف طلب آخر من عمال عاطلين للاستفادة من برنامج الطوارئ الفيدرالي، وهو رقم مرتفع أيضا عن السابق.
وقد أتى ارتفاع المطالبات متزامنا مع قرب انتهاء أجل البرنامج الذي يتم بموجبه منح العاطل عن العمل 600 دولار أسبوعيا كإعانة تكميلية لإعانة البطالة التقليدية، في الوقت الذي أدت فيه الخلافات الداخلية في الحزب الجمهوري إلى منع الحزب من التقدم بمقترح جديد لإعانات جديدة لفترة طويلة.
وقد أتت هذه الأنباء غير المشجعة التي أعلنتها إدارة العمل في أعقاب المسح الذي قام به مكتب التعداد السكاني، والذي أظهر أن عملية التوظيف خلال الأسبوع الثاني من يوليو قد شهدت توفر فرص عمل تقل بنحو أربعة ملايين عن الأسبوع السابق. ويعد هذا رابع انخفاض متتال، وهو ما يشير إلى أن كافة الوظائف التي تم توفيرها منذ منتصف شهر مايو قد تم محوها.
وحسب بعض الاقتصاديين الأمريكيين فإن الموقف يشير إلى توفر كافة العناصر السالبة فيما يتعلق بالتعافي الاقتصادي حيث يتدهور الموقف الصحي، ويضعف سوق العمل، ويعاني الطلب من انخفاض. وهو ما يبين أن الإسراع بفتح النشاطات الاقتصادية كان له آثار عكسية، حيث ساهم في عودة تفشي الإصابة بالفيروس، خاصة في الجنوب والغرب، وهو ما أرغم الأنشطة الإنتاجية المختلفة على العودة للإغلاق.
وهناك حاليا نحو 30 مليون عاطل، أي واحد من بين كل خمسة من العاملين الأمريكيين يحصل على إعانة البطالة. وبدون الاتفاق على إعانة تكميلية سوف يصبح لدى العاطلين دخل أقل للإنفاق على مختلف الأغراض خلال الفترة المقبلة. كما أن البرنامج الفيدرالي لحماية الرواتب قارب على نهايته وهو البرنامج الذي يمد المشروعات الصغيرة بقروض طوارئ مما حال دون الاستغناء عن العديد من العاملين.
أضف إلى هذا تراجع ثقة المستهلك الأمريكي في يوليو بأكثر مما كان متوقعًا، حيث أدت الزيادة في حالات الإصابة بالفيروس إلى هز ثقة الأمريكيين بشأن الاقتصاد وسوق العمل. وانخفض مؤشر كونفرانس بورد إلى 92.6 نقطة من 98.3، وفقا لتقرير صدر يوم الثلاثاء الماضي.
وكان قد تم في نهاية شهر مارس إصدار تشريع تأسس بموجبه برنامج فيدرالي مؤقت للعاطلين، سمي "مساعدة العاطلين بسبب الجائحة"، وذلك من أجل تغطية العاملين لبعض الوقت والعاملين لحسابهم الخاص والآخرين الذين لا تنطبق عليهم شروط الحصول على تعويضات البطالة المعتادة. وقام التشريع بمد إعانات العاطلين لمدة 13 أسبوعا إضافيا بعد انتهاء المدة المحددة لدفع الإعانات التقليدية. كما ساعد البرنامج العاطلين على البقاء خلال فترة الضائقة المالية بمدهم بإعانة أسبوعية قدرها 600 دولار أسبوعيا تكميلية فوق إعانات البطالة المعتادة، وهو ما سوف ينتهي نهاية شهر يوليو.
ويحذر الاقتصاديون من أن الأمر لن يقتصر على انخفاض دخول الأفراد الذين سيعانون من انقطاع تعويضات البطالة التكميلية. فالمدفوعات الفيدرالية تضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد أسبوعيا. ويقدر بعض الاقتصاديين أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي من الممكن أن يكون أقل بنحو 2% في نهاية هذا العام، كما أنه ستقل فرص العمل المتاحة بنحو 1.7 مليون فرصة.
وهناك نقطة أخرى إضافية تتعلق بالاختلافات العرقية. حيث أن العاملين السود أو العاملين من أصول أمريكية لاتينية يعانون من معدلات بطالة أعلى كما أنهم ليست لديهم مدخرات أو ثروات أو أصول يمكنهم الاعتماد عليها، مما يترك هذه الأقليات العرقية في حال أسوأ كثيرا.
علاوة على مدفوعات البطالة كان للإجراءات الحكومية من أجل التخفيف من حدة الأزمة أثرها أيضا. ففي معظم الولايات تم بشكل مؤقت حظر طرد السكان من مساكنهم بسبب عدم دفع الإيجارات، وهو ما حال دون تفجر أزمة مشردين في الشوارع بلا مأوى. كما تم تأجيل سداد ديون الطلبة الفيدرالية. وتم توجيه البنوك إلى منح عملائها تأجيلا لسداد مدفوعات قروض الرهن العقاري لمدة ستة أشهر في حال طلبهم ذلك. وهي إجراءات ينتهي أجل بعضها قبل موعد انتخابات الرئاسة.
خطط الجمهوريين وانتخابات الرئاسة
حتى الآن يبدو أن الجمهوريين يرغبون في عدم تمديد مدفوعات إعانة البطالة التكميلية وتخفيضها إلى نحو 200 دولار أسبوعيا فقط حتى شهر سبتمبر، ثم يحصل العاطلون بعد ذلك على 70% من دخلهم السابق، مع دفع 1200 دولار لكل بالغ لمرة واحدة فقط في خطة إنعاش اقتصادي جديدة يبلغ حجمها تريليون دولار. إذ يرى أقطاب الحزب الجمهوري أن مدفوعات إعانة البطالة التكميلية تجعل دخول كثير من العاملين أعلى من الدخول التي يمكن حصولهم عليها من العمل، وهو ما لا يشجعهم على العودة للعمل. بينما على الطرف المقابل يطالب الديمقراطيون باستمرار مدفوعات البطالة التكميلية على ما هي عليه حتى شهر يناير المقبل، وذلك ضمن خطة إنعاش اقتصادي يبلغ حجمها 3 تريليونات دولار توافقوا عليها خلال شهر مايو الماضي. ويرى أقطاب الحزب الديمقراطي أن تدهور الأوضاع من جديد بعد التسرع في إعادة الفتح وعودة معدل البطالة للارتفاع يعني ضرورة استمرار الإعانات كما هي لصالح مساعدة الاقتصاد على العودة للنمو من جديد. علاوة على تقديم نحو 200 مليار دولار للمساعدة على دفع الإيجارات وتخفيف أعباء ديون الرهن العقاري.
ومن المنتظر الدخول في عملية تفاوض معقدة بين الحزبين خاصة مع الأغلبية التي يحوزها الحزب الديمقراطي في مجلس النواب وأغلبية الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ. ونتيجة لهذا ربما يمر بعض الوقت قبل الاتفاق على تشريع جديد. وأيا كان التشريع الذي سيصدر فقطعا سوف يكون له (ولمجمل تطورات الاقتصاد الأمريكي) آثاره على رأي جمهور الناخبين الذي سيتوجه لصناديق الانتخابات يوم الثلاثاء 3 نوفمبر المقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة