أزمة الردع الأمريكية.. نظرية قديمة في مواجهة واقع جديد
تواجه الولايات المتحدة أزمة ردع، وهو ما يجبرها على الاختيار ما بين الانخراط في حرب أكبر أو التراجع، وفي الحالتين يثبت فشل نظرية الردع.
وترتكز أسس نظرية الردع على كتابات الحرب الباردة مثل كتابات توماس شيلينغ، الذي سعى إلى صياغة استراتيجية لردع الضربة النووية السوفياتية، وأثبتت المبادئ المركزية للردع؛ وهي الاستقرار الناتج عن الدمار المؤكد المتبادل، ومخاطر التصعيد ودور حافة الهاوية، أنها مفيد لردع الخصوم المسلحين نوويًا وذلك وفقا لما ذكرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.
وفي الواقع فإن هذه المبادئ لم تكن مفيدة في ردع الهجمات التي تشنها القوى غير النووية كما أنها كانت عديمة الفائدة إذا تعلق الأمر بالجهات الفاعلة غير الحكومية.
وخلال الأشهر الأخيرة بدت إيران ووكلاؤها على استعداد لمهاجمة القواعد الأمريكية وإغراق السفن التجارية، وشن هجمات مباشرة على إسرائيل، وربما إشعال حرب إقليمية أكبر وهو ما يتطلب من الولايات المتحدة إظهار قدرة أكبر على القوة من أجل منع المزيد من التآكل في الردع في المنطقة.
والطريقة الوحيدة لاستعادة الردع هي ملاحقة إيران وليس الحوثيين أو حزب الله لكن المسؤولين الأمريكيين يعتبرون أن الضغط على إيران أمر محفوف بالمخاطر.
وقبل عام 1945، لم يكن الردع موضوعًا رئيسيًا في دراسة الحرب لكن في بداية العصر النووي بدأ الاستراتيجيون مثل شيلينغ وبرنارد برودي وألبرت وولستيتر في صياغة أسس نظرية الردع.
ويقوم الردع النووي على القدرة على شن ضربة ثانية مدمرة ردًا على هجوم من الخصم، وهي الديناميكية المعروفة باسم "التدمير المتبادل المؤكد" وهي القدرة التي تمتلكها كل من الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحد حيث تجعل الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والغواصات والصوامع وحاملات الصواريخ المتنقلة من المستحيل على أي من هذه القوى تدمير خصم دون تدمير نفسها.
ولا تستطيع الولايات المتحدة اتخاذ إجراء ضد الصين أو روسيا دون أن يحمل ذلك الإجراء خطر خروج الأمور عن السيطرة.
وفي ظل خطر التصعيد، يمكن أن تكون حتى الخطوة الصغيرة خطيرة للغاية ويمكنها أن تشير إلى عزم كبير فمثلا ينطوي وضع القوات البرية بالقرب من قوات الخصم، أو تحليق طائرة فوق سفينة حربية، أو مرور السفن البحرية بالقرب من مياه الخصم على خطر التصعيد.
لكن الأزمة أن شيلينغ ومعاصريه لم يطوروا نظرية الردع لشرح كيفية التعامل مع الدول غير النووية وعندما حاول المسؤولون تطبيقها في هذا الإطار جاءت النتائج سيئة.
ففي عام 1964 وأوائل عام 1965، حاولت إدارة الرئيس ليندون جونسون تطبيق فكر شيلينغ على فيتنام الشمالية، فنفذت سلسلة من الغارات الجوية المتدرجة لإظهار أن الضرر الأكبر سوف يأتي إذا لم تتراجع هانوي لكن الأمور لم تسر كما كانت واشنطن تأمل فلم يقتنع كبار قادة فيتنام الشمالية بأن واشنطن ستطيح بهم وكانوا على استعداد لتحمل خسائر متزايدة لتوحيد بلادهم.
وعند مواجهة قوة غير نووية، يتضاءل خطر الدمار المتبادل المؤكد إلى حد كبير حيث تواجه القوة النووية خطرًا ضئيلًا من الكارثة النووية لكن هذا لا يعني أنها حرة في استخدام قوتها كما يحلو لها.
إن ردع قوة غير نووية أمر صعب لأن العدو غير النووي قد يفترض أن الولايات المتحدة غير راغبة في تحمل تكاليف حرب تقليدية شاملة.
ومن غير المرجح أن يكون للأدوات المستخدمة لردع الصين أو روسيا نفس التأثير على إيران أو أي دولة غير نووية أخرى، لأن الولايات المتحدة تواجه هنا خطراً أقل كثيراً من الانتقام النووي.
والخطوة التي قد تبدو عالية المخاطر إذا اتخذتها واشنطن ضد الصين أو روسيا قد تبدو خطوة حذرة إذا اتخذت ضد إيران.
وعند التعامل مع دولة غير نووية، تشير الخطوة الصغيرة إلى أن التكاليف أو الفوائد المترتبة على حرب شاملة لا تستحق العناء لذا يتعين على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات أكبر عند مواجهة خصوم غير نوويين مثل إيران رغم أن ذلك قد لا يضمن تحقيق الردع.
وإذا كانت القوة غير النووية واثقة من أن الولايات المتحدة غير ملتزمة بالنصر العسكري، فقد يُنظَر إلى الخطوة الكبيرة على أنها خداع أو مجرد ضربة أخرى في حرب استنزاف مستمرة.
أما إذا تم النظر إلى الخطوة الكبيرة على أنها مؤشر على نية عدوانية، فقد تختار القوة غير النووية اليائسة، التصعيد بدلاً من تقديم التنازلات مثلما تفعل أوكرانيا في حربها مع روسيا.
وفي لعبة حافة الهاوية ضد دولة غير نووية، يجب على الولايات المتحدة إرسال إشارات مكلفة تثبت الالتزام والقدرة، مثل الضربات الانتقامية أو نشر حاملات الطائرات والغواصات لفترات طويلة.
وتتراجع فائدة نظرية الردع عند التعامل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حزب الله والحوثيين حيث تفتقر هذه الجماعات إلى الأهداف العسكرية ذات القيمة العالية للدول كما أنها متنقلة وتخفي نفسها جيدًا وبالتالي يصعب القضاء على أنظمة الصواريخ التي تستخدمها.
ووفقا لـ"فورين أفيرز" فإن الولايات المتحدة لديها تاريخ في سحق المنظمات الإرهابية من خلال المراقبة المكثفة والضربات الجوية والمسيرات والعمليات الخاصة والغارات المنسقة مع الحلفاء مثلما هزمت داعش والقاعدة.
إن حزب الله والحوثيين معرضون لنفس الأساليب، وبسبب قربهم من البحر، تقل الحاجة إلى بناء الولايات المتحدة لقواعد باهظة الثمن على الشاطئ إلا أن هذا النهج يستغرق وقتًا، ويتطلب قدرًا كبيرًا من الموارد، وينطوي على قدر لا بأس به من الدمار.
وبالتالي فإن الطريقة الأكثر كفاءة للتعامل مع هذه الجماعات هي الضغط على إيران التي يعتمد عليها حزب الله والحوثيون.
وترى المجلة الأمريكية أن على الولايات المتحدة أن تتأكد من إدراك طهران عواقب إلحاقها الضرر بالقوات الأمريكية ويتعين عليها أيضا توضيح استعدادها للرد من خلال الأفعال وليس الكلمات وقد لا تكون الخطوات الصغيرة هي الحل المناسب هنا فيجب على واشنطن توضيح المخاطر التي تواجهها إيران من حرب شاملة وإلحاق الضرر بمصالحها الحيوية.
كما ترى أنه من الضروري على إدارة الرئيس الأمريكي بايدن، إبلاغ طهران بأنها ستعترض أي صواريخ موجهة إلى إسرائيل، وأنها ستنتقم لخسارة الأرواح الأمريكية، وأن هجمات الحوثيين الصاروخية في البحر الأحمر يجب أن تتوقف فيجب أن يقترن إطلاق أي صاروخ حوثي بعمل أمريكي ضد إيران.
ويجب على وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) التفكير في طرق إبداعية لإظهار أن الأصول العسكرية الإيرانية يمكن أن تتضرر على الفور، من خلال الحرب الإلكترونية أو العمليات الخاصة ويتعين على واشنطن تعزيز هذه الرسالة بإرسال قوات هجومية إلى الشرق الأوسط مثلما نشرت حاملتي طائرات ومدمرات صواريخ موجهة ومقاتلات إف-22 وغواصة صواريخ موجهة، على ما تقول "فورين أفيرز".
وأخيرا، ينبغي للولايات المتحدة أن تستمر في الصمود في الدفاع الصاروخي عن إسرائيل بما يحد من خيارات إيران ويتعين على واشنطن أن تدرك أن الردع يتطلب قبول المخاطر.