الصريح الوحيد كان الرئيس المناضل والنزيه محمد بوضياف من زعماء جبهة التحرير الذي أحضر من المغرب ليتولى الرئاسة
تعيش الجزائر هذه الأيام فترة هدوء يعمل خلالها جميع الأطراف على تقييم المرحلة ودراسة الوضع في فرصة قد لا تتكرر بعد أشهر من التظاهرات والاحتجاجات التي طالت معظم رموز النظام، فقد شاءت الأقدار أن يجمع الفريق أحمد قايد صالح رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع الشعب حوله في مماته كما جمعه في حياته. وبدت أجواء الاحترام والتقدير جلية في الإجماع على تقدير الراحل واحترام دوره رغم ما كان يؤخذ عليه من مواقف وحزم.
الصريح الوحيد كان الرئيس المناضل والنزيه محمد بوضياف من زعماء جبهة التحرير الذي أحضر من المغرب ليتولى الرئاسة، فقد حدد لي في مقابلة أجريتها معه أسباب الأزمات، ومنها الفساد المتفشي، وأعلن أنه سيقطع رؤوس الفساد، وتم اغتياله بعد أشهر بشكل فاضح على يد ضابط جزائري.
إضافة إلى ذلك كان هناك جناح آخر في السلطة من أعوان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وأركان النظام المتداعي ومعارضة كبار الجنرالات لأسلوبه الهادئ ونهج الحوار الذي اعتمده مع المتظاهرين، ما تسبب في انتشار شائعات كبيرة، من بينها أن الجنرال الراحل لم يمت بصورة طبيعية بل إنه حضر اجتماعاً عاصفاً يضم كبار القادة وضغطوا عليه للتراجع عن سياسته واستخدام القوة، لكنه رفض فتمت تصفيته، إلا أن الجنازة الرسمية والشعبية نفت هذه الروايات، وأشارت إلى أنه كان يعاني من مشاكل صحية زاد من حدتها الجهد الذي بذله طوال فترة المواجهة والضغوط التي تعرض لها من كل حدب وصوب.
واللافت للاهتمام وللإعجاب أيضاً أن قايد صالح نجح في استيعاب الثورة وأمسك العصا من وسطها حتى لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، أي لا ينتشر العنف ويتحول إلى حرب أهلية بتلبية بعض مطالب المتظاهرين، ولا تتعرض الجزائر للخطر وتعمها الفوضى وحالة اللا استقرار، فقد تم إجبار بوتفليقة على التنحي وألقي القبض على كبار المتهمين بالفساد، وبينهم أشقاء الرئيس المخلوع وأعوانه تمهيداً لمحاكمتهم، ولبى طلب المتظاهرين بإجراء انتخابات عامة مبكرة وانتخابات رئاسية حرة.
وهكذا ثم تنفيس الاحتقان وإيقاف المظاهرات، وبدأت رحلة الألف ميل رغم استمرار الاحتجاجات وانتقاد المتظاهرين لعملية الانتخابات، بل أنهم لم يقبلوا بالرئيس عبد المجيد تبون الذي انتخب أخيراً، ولهذا يخشى كثيرون من أن يضيع المتظاهرون أو بعضهم هذه الفرصة الفريدة للانقاذ التي قد لا تتكرر.
بمعنى آخر، إن قايد صالح عمل على الحفاظ على النظام ومؤسسات الدولة وهيمنة الجيش، وأزاح بعض أركانه البارزين تقديراً منه لحساسية الموقف والأخطار الناجمة عن الرفض، لأن الجزائر مختلفة عن غيرها من ناحية قوة الاتحادات والنقابات والمؤسسات الأهلية التي شاركت بقوة في ثورة الشعب العارمة.
وهكذا انتهت جولة بأقل ما يمكن من خسائر، وبقي أمام الجزائر جولات وجولات نظراً لتكوينها الاجتماعي والسياسي، فرغم عدم وجود صراعات طائفيه بارزة هناك أوضاع دقيقة وتوترات دائمة وحساسية بين العرب والبربر (الأمازيغ) ومنطقة غرداية التي تشهد أحداثاً دامية منذ سنوات لأسباب نزاع طائفي بين العرب والإباضيين، وتبقى قوى الضغط البارزة والخفية مثل قوى الجيش ومركز نفوذ الإسلاميين الذين كادوا يصلون إلى الحكم بانتخابات عامة نجح الجيش في إلغاء نتائجها وسيطر على الحكم بعد أحداث دامية استمرت عدة أعوام، إضافة إلى مشاكل الشباب العاطلين عن العمل وهم يشكلون أكثرية، إضافة إلى صراع خفي بين المتمسكين بالعروبة وتعريب المناهج وبين المتفرنسين الذين يصرون على إقامة علاقات خاصة مع فرنسا ودول الغرب.
وكل هذه الإشكالات والعقد هي وليدة أكثر من ٤٠ سنة من الاستقلال من أيام الرئيس أحمد بيلا والرئيس هواري بو مدين الذي أطيح به في انقلاب عسكري، وأقام نظاماً متشدداً، واتخذ في العهدين الكثير من القرارات بسبب إقامة مشاريع غير مجدية وصناعات ثقيلة للقطاع العام سرعان ما تهاوت وضاعت ثروات النفط والغاز بين الأخطاء والفساد. ومشكلة النظام المغلق تتضاعف مع الأيام في ظل الكتمان ورفض الاعتراف بالواقع المرير.
فقد سألت الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد عما كان يتردد حول خطر الجماعات الإسلامية فأنكر واتهم الإعلام في الشرق بأنه يخترع الشائعات، ومرت الأيام فإذا بجبهة الإنقاذ الإسلامية كادت أن تطبق على الحكم.
وسألته أيضاً عن ظاهرة تسكع آلاف الشباب العاطلين عن العمل الذين أطلق عليهم اسم "الموريست" أي "الحيطست" نسبة إلى إسناد ظهورهم على الجدران لساعات، فرفض الوصف وخفف من أخطاره وكان ما كان.
الصريح الوحيد كان الرئيس المناضل والنزيه محمد بوضياف من زعماء جبهة التحرير الذي أحضر من المغرب ليتولى الرئاسة، فقد حدد لي في مقابلة أجريتها معه أسباب الأزمات ومنها الفساد المتفشي، وأعلن أنه سيقطع رؤوس الفساد، وتم اغتياله بعد أشهر بشكل فاضح على يد ضابط جزائري.
وأختم بكلمة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الذي وصف الواقع في الجزائر بـ"أن رئيس الوزراء الرئيس السوفيتي إليكسي كوسيجين قال له وهو على سلم الطائرة مغادراً تونس: كأن النفط في تونس وليس في الجزائر والباقي مفهوم".
.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة