هناك الكثير من الحسابات التي لم يتم تصفيتها بعد فيمن كان سببا في انهيار الاتحاد السوفيتي، وهل كانوا من الأعداء التقليديين في الغرب؟
لا أدري كيف سيظهر عصرنا الحالي في كتب التاريخ، علاماته قد تكون معروفة للكافة من تطورات تكنولوجية مذهلة إلي الإرهاب، ومن محاكمات ترامب إلي إعفائه من كل ذنب، ومشاهد "الربيع العربي" سوف تكون معروفة بحرائقها، وخروج بريطانيا -البريكسيت- من الاتحاد الأوروبي، وعشرات من قصص الإرهاب. أمور كثيرة تتداخل فيما بينها تخلق خلافات حول مصير الكوكب الذي يدمره "الاحتباس الحراري"، وحول دور كل دولة وجميع القادة، في الأمم المتحدة بعد الحرب الباردة وما بعدها أيضا. الثابت هو أن التاريخ يكتب عدة مرات: مرة من وجهات نظر الذين شاركوا فيه، ومرة ممن كانوا خارج الموضوع ويسود ظن أنهم محايدون، ومرة من قبل دارسين يعيدون النظر ويجمعون الوثائق والمخطوطات. عصرنا ربما سوف يكون أكثر العصور توثيقا بالصوت والصورة الملونة والتسجيلات التي تناوبت علي كل خطاب ومؤتمر. ومع ذلك سيكون الخلاف كبيرا بين المطبوعات المختلفة؛ لأن التاريخ يكتب بشكل مختلف في كل عصر مهما توافرت حوله من سجلات. الثورة الفرنسية لا تزال مختلف عليها، وكذلك الثورات الكبري الأخرى الأمريكية والبلشفية والصينية والإيرانية. كلها غيرت معادلات كثيرة، وكلها قادت إلى حروب وصراعات، وكلها كان فيها من الذنوب والمعاصي ما يكفي الجميع. ثورات العالم الثالث كان جزءا منها اكتشاف تاريخ البلاد قبل الاستعمار وبعده، تكوين القوميات بدأ في التاريخ؛ حيث تبدأ الشخصية الوطنية في الظهور. جزءا من ذلك يظهر الآن بكثرة في التأكيد على "الهويات" الخاصة بالدول والأمم والجماعات، هي حالة من حالات مقاومة الذوبان في كيانات كبرى قد تكون الاتحاد الأوروبي أو القومية العربية أو الرابطة الإسلامية أو تجمع آسيا والباسفيك.
هناك الكثير من الحسابات التي لم يتم تصفيتها بعد فيمن كان سببا في انهيار الاتحاد السوفيتي، وهل كانوا من الأعداء التقليديين في الغرب أم كانوا من الحلفاء الذين انشقوا وباعوا القضية؟
مناسبة الحديث عن التاريخ هو الخلاف الجاري ما بين البرلمان الأوروبي الذي أصدر قرارا "تاريخيا" في ١٩ سبتمبر الماضي "حول أهمية التذكر الأوروبي لمستقبل أوروبا". هذا القرار أدان روسيا لقيامها "بتبييض الجرائم التي ارتكبها النظام الشمولي السوفياتي"، وألقى باللوم على السوفييت الشيوعيين (إلى جانب النازيين الألمان) لبدء الحرب العالمية الثانية، ودعا إلى إزالة النصب التذكارية للحرب السوفيتية في جميع أنحاء أوروبا. الخطيئة الأصلية هنا في نشوب الحرب العالمية الثانية هي الاتفاق بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا في أغسطس ١٩٣٩، والذي وقعه وزيرا خارجية الدولتين "مولتوف" و"روبينتروب" على تقسيم بولندا كان هو القشة التي قصمت ظهر البعير ودفعت هتلر إلي غزو بولندا وبداية الحرب العالمية الثانية. ولكن هذه الخطيئة لم تكن هي الخطيئة الأولى، ومن وجهة نظر فلاديمير بوتين رئيس دولة روسيا الاتحادية، وليس الاتحاد السوفيتي، رأي في الأمر نوعا من التزييف التاريخي. ومن وجهة نظره التي عرضها أمام "رابطة الدول المستقلة" فقد كان هناك اتفاق آخر هو اتفاق ميونيخ في عام ١٩٣٨، الذي سمح لألمانيا النازية بالالتفاف على أجزاء من تشيكوسلوفاكيا بمصادقة كاملة من بريطانيا وفرنسا. "تقسيم تشيكوسلوفاكيا" كان نقطة تحول في التاريخ أعقبتها الحرب العالمية الثانية. ويمضي بوتين إلى القول إن الفرنسيين قد تعثروا بالتزاماتهم بالدفاع عن تشيكوسلوفاكيا ضد الغزو الألماني (وقعت باريس وبراغ معاهدة تحالف في عام 1924)، وكان الاتحاد السوفيتي -الذي كان لديه أيضًا معاهدة مع براغ- على استعداد للمساعدة. المشكلة هي أن السوفييت ليس لهم حدود مشتركة مع تشيكوسلوفاكيا وبالتالي اعتمدوا إما على استعداد رومانيا وإما على بولندا للسماح بمرور القوات السوفيتية. ولكن أيا من الدولتين لم يكن لديها استعداد للسماح بذلك، ولا كان ممكنا الاعتماد على الحكومة البولندية في الدفاع عن تشكيوسلوفاكيا. ويتعلق الجزء الثاني من سرد بوتين "التحريفي" بسياسات بولندا بأن بولندا كانت مهندسة للعديد من مصائبها؛ لأنها لم تمنع السوفييت من مساعدة تشيكوسلوفاكيا فحسب، بل تآمرت بنشاط مع ألمانيا لتقسيمها، بما في ذلك الوثائق البولندية الغامضة التي توضح خططا للعمل العسكري البولندي ضد التشيكوسلوفاكيين إذا فشلوا في التخلي عن الأراضي عن طيب خاطر.
وأخذ "سيرجي رادشينكو" الأمر خطوات إضافية في مقال نشره في دورية "السياسة الخارجية" في ٢١ يناير المنصرم، أشار فيه إلى أن "فلاديمير بوتين يريد إعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية"، وأن مركز اتهامه في الحقيقة ينصب على بولندا والبولنديين الذين كانوا هم الذين وضعوا الشعب البولندي مفتوحا أمام الآلة العسكرية الألمانية، وأسهموا بشكل عام في بداية الحرب العالمية الثانية. وهكذا أثارت تصريحات بوتين انتقادات غاضبة من وزارة الخارجية البولندية التي اعتبرت أقواله "دعاية" ستالينية، واتهمت الزعيم الروسي بتقويض الجهود المشتركة "لإيجاد طريقة الحقيقة والمصالحة في العلاقات البولندية الروسية". وهكذا فإن ما كان تعليقا من بوتين على بيان البرلمان الأوروبي قد بدأ في التمدد لكي يستثير آلاما تاريخية عميقة، فيتهم بوتين بالتحريف التاريخي عندما نقل عنه "إن الآثار في أوروبا قد أقيمت لجنود الجيش الأحمر النظاميين الذين كان معظمهم من المزارعين والعمال، وهؤلاء الناس ماتوا أثناء تحريرهم الدول الأوروبية من النازية"، وأضاف أن بوتين "مؤرخ الهواة" لن يحصل على درجة النجاح في أي جامعة محترمة. ولن يكون قادرا على نشر آرائه في أي مجلة تتم مراجعتها من قبل النظراء.
الشياطين جميعها كما يقال تكمن في التفاصيل، ولا توجد نية هنا لمناقشة ادعاءات كل الأطراف فيما يتعلق بالحرب العالمية الثانية ليس فقط فيمن بدأها، وإنما أيضا فيما حدث بعدها، وبقاء شرق أوروبا كلها تحت الهيمنة السوفيتية الستالينية في البداية على الأقل. ما جرى خلال الحرب الباردة هو جزء من البناء التاريخي للحاضر الذي يستعيد وقائع كان متصورا أنها ذهبت إلى أرشيف التاريخ، ولكن خروجها الآن وعلى هذه الصور من "الردح" التاريخي المتبادل يستحضر فورا ليس الإجابة على السؤال عمن خذل تشيكوسلوفاكيا، أو من خذل بولندا بعد ذلك، أو حتى من خذل الروس الذين كانوا أكثر من دفع ثمنا في تحرير أوروبا. في أوروبا من الخذلان ما يكفي العديد من الدول وقادتهم جميعا. وفي الحقيقة فإن حديث بوتين ليس عما حدث قبل الحرب العالمية الثانية ولكن عملية الخذلان الحالية التي دفعت دولا كانت في "حلف وارسو" لا لكي تكون جزءا من الاتحاد الأوروبي فحسب وإنما أن تكون عضوا في حلف الأطلنطي، وتوضع على أرضيها من المنصات والمواقع الأمريكية ما يهدد الأمن الروسي مباشرة.
الحاضر ربما بدأ مع انهيار الاتحاد السوفيتي الذي يبدو في نظر بوتين أنه كان حقيقة "روسية" أكثر منها وليدة نظام سياسي بعينه يقوم علي الحزب الشيوعي وعلى أيديولوجية ماركسية قامت في الواقع علي تدخل الدولة، فأيا كانت التغيرات التي حدثت في روسيا من التحول إلى اقتصاد السوق، والانفكاك من أيديولوجيات شمولية في الحديث، فإن "الهوية" الروسية بقيت لكي ترث حقا الحرب العالمية الثانية التي انتهكت أراضيها وذبحت شعوبها. الجغرافيا السياسية لم تختفِ، ومن ثم فإن علاقات روسيا مع جيرانها من كانوا جزءا من الاتحاد السوفيتي مثل أوكرانيا، ومن كانوا أعضاء في حلف وارسو مثل بولندا لم تتغير. هناك الكثير من الحسابات التي لم يتم تصفيتها بعد فيمن كان سببا في انهيار الاتحاد السوفيتي، وهل كانوا من الأعداء التقليديين في الغرب، أم كانوا من الحلفاء الذين انشقوا وباعوا القضية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة