متجر "كور يوسف" في دياربكر.. حكاية مع العطارة عمرها 130 عاما (صور)
يتناول العطار سليمان أونور من على أحد رفوف متجره كيساً يختزن ما يشبه حقلاً من الأعشاب، وهو مزيج كانت والدته تعدّه له عندما يصاب بالبرد.
يروي سليمان وسط العشرات من أنواع شاي الأعشاب والأعشاب العطرية والتوابل المعبأة في أكياس أو المجموعة في باقات والتي تملأ متجره الصغير، وهو أقدم محل للعلاج بالأعشاب في مدينة دياربكر بجنوب شرق الأناضول "هذا هو الخليط الذي كانت أمي تعدّه لي وأنا طفل، عندما كان الشتاء قاسياً هنا".
ما زال متجر "كور يوسف" الذي يعود إلى العام 1891 يحمل اسم مؤسسه "جوزيف المكفوف" وهو كاثوليكي كلداني من المذهب السرياني قرر أحفاده مغادرة هذه المنطقة المضطربة الواقعة على حدود إيران وسوريا والعراق، بعدما باعوا المتجر إلى والدَي سليمان في خمسينيات القرن العشرين ليتمكنوا من الانتقال إلى إسطنبول.
يحتفظ سليمان بالأدراج الخشبية القديمة المطلية بالورنيش الأسود، مع أن موقع المتجر القديم في الحي التاريخي للمدينة ذات الغالبية الكردية تغير.
ويقول سليمان أونور إن "المتجر الأصلي هُدِم عام 1977"، عندما أرادت السلطات التركية إقامة طرق واسعة لتسهيل حركة المرور في هذه الأزقة المتداخلة في وسط ديار بكر القديم المحاط بواحد من أطول الجدران في العالم.
حصل ذلك قبل الاشتباكات المدمرة عامَي 2015-2016 بين الجيش والمقاتلين الأكراد وإعادة الإعمار التي نفذت على عجل لوسط المدينة، ما أدى إلى تغيير شكله مجدداً.
لم يعد سليمان أونور البالغ اليوم السابعة والخمسين يتذكر أصحاب المتجر الأصليين.
فالمتجر انتقل إلى الزقاق الذي يقع فيه حالياً عندما تولاه سليمان وشقيقه سياف، بعد وفاة والدهما، وكان يضيق بمحتوياته فيفيض قسم منها إلى خارجه، أمام واجهته الصغيرة جداً.
ومن نافذة صغيرة، يلبّي سليمان طلبات الزبائن وهم في الشارع، تجنباً لدخولهم المحل الضيّق الذي يجد زائره صعوبة في التنقل فيه بين باقات الزعتر وعبوات معجون الفلفل الأحمر المكدسة فيه.
ويفتخر سليمان بفضائل مستحضراته العشبية الني يجمع مكوناتها من محيط دياربكر.
فهذه المنطقة التي تحيط بها الجبال ويرويها نهرا دجلة والفرات، ضُمّت إلى الإمبراطورية العثمانية منذ القرن السادس عشر وكانت مع مصر مصدراً للمواد الغذائية يموّن منه الباب العالي جيوشه التي تحارب الفرس والروس.
ويشرح عالم الصيدلة وعلم النبات في جامعة باتمان (جنوب شرق تركيا) ألفجان كابلان أن "الموقع الجغرافي لدياربكر، وتضاريسها وتعدد مناخاتها يجعلها غنية بالنباتات".
أحصت دراسة عن استخدام النباتات الطبية في المنطقة 406 أنواع من 229 جنساً مختلفاً، من بينها 56 نوعاً مستوطناً، كالزيزفون والخروب والقصعين والكنباث (أو ذيل الحصان) وأوراق السفرجل ونبات القراص وعباءة السيدة والشمر وعرق السوس والكركديه، المستخدمة لمحاربة التهابات الجهاز التنفسي والأسنان والمسالك البولية وضغط الدم والاضطرابات المعوية.
ويقول سليمان أونور "قبل 130 عاماً، لم يكن هناك صيدليات ولا كان ثمة أطباء. كان الناس يأتون إلى هنا لتلقي العلاج".
ويضيف "كان جوزيف المكفوف يساعد الناس، ولهذا السبب صمد اسمه على مر القرون".
ويشرح العطّار "لدينا قطّافونا، نعطيهم التعليمات اللازمة في شأن كيفية تجفيف الأعشاب التي نستخدمها"، مؤكداً أن "ما مِن شيء يباع ما لم يكن مجرباً ومثبتاً".
يُقبل الزبائن على المتجر بلا انقطاع من الصباح إلى المساء، ومن أولهم رجل ستيني أنيق جاء حاملاً قائمة بالمستحضرات المطلوبة أعدّتها زوجته.
ويدخل شاب يسأل عن سعر الزعفران ولا يلبث أن يغادر مذهولاً بثمنه الباهظ، ثم تأتي امرأة كبيرة السن لطلب النصيحة بخصوص مشكلة في الكلى.
ثم تحضر جزارة الحي الشابة حُرم يالتشين لشراء مزيج من التوابل لإعداد السجق، أحيطت مكوناته بكتمان شديد.
وتقول "نأتي إلى هذا المكان لأننا نثق به. أنهم الوحيدون الذين يعرفون وصفتنا".
ويقول سليمان أونور "نستفيد من ملاحظات زبائننا وخبراتهم، فهي تُمكنُنا من التحسين"، ومن الحفاظ على سمعة "كور يوسف" منذ 130 عاماً.