السينما العربية ترفع راية التسامح في أفلامها
السينما العربية جادت خلال العقود الماضية بأفلام لعب التسامح الديني والاجتماعي محوراً أساسياً فيها، كما أنها وليدة الواقع
الانتصار للإنسانية هدف سعى خلفه العديد من صناع الأفلام العرب، مستندين في رؤاهم إلى التسامح، ليخرجوا بذلك السينما من عباءتي العنف والرعب الذي طالما ارتبطت به، خاصة في أفلام هوليوود التجارية، وبنظرة على تاريخ السينما العربية، نجد أنها جادت خلال العقود الماضية بعديد الأفلام التي لعب التسامح الديني والاجتماعي محوراً أساسياً فيها، ولعل أهمية هذه الأعمال تكمن في كونها مستقاة من الواقع العربي، وقلب المجتمع وما يعانيه من قضايا شائكة، وفي هذا السياق، اجتهد صناع السينما العرب، في تقديم أعمال تركت بصمة لامعة في تاريخ الفن السابع، وان كان على المستوى العربي فقط.
لم تكن إسهامات الممثل الراحل عمر الشريف قاصرة على السينما العالمية، فقد وضع اسمه في قوائم العديد من الأفلام العربية، التي جسدت قيمة التسامح بين مشاهدها، ولعل فيلمه "حسن ومرقص" الذي قدم مع الفنان عادل إمام، واحد من الأعمال التي أضاءت على أهمية التسامح الديني بين الطوائف، وحمل ترجمة خاصة لميول عمر الشريف الشخصية، حيث كان طوال الوقت متسامحاً مع كافة الأديان والمعتقدات، وهذه بلا شك نقطة تضيء تاريخه السينمائي الحافل.
كوميديا سوداء
في "حسن ومرقص" نشهد حكاية تقع ضمن تصنيف الكوميديا السوداء، أحداثها تدور حول رجل الدين المسيحي الذي يضطر للهرب والتخفي في شخصية رجل دين مسلم، والرجل المسلم الذي تهدده جماعة متطرفة بسبب رفضه استلام منصب أخيه المتوفى كأمير لها، فيضطر للهرب والتخفي كمسيحي مع عائلته، يلتقي الاثنان، وتجمع بين العائلتين علاقة رائعة، فكل طرف يعتقد أن الآخر يؤمن بمثل ديانته، ليكتشف الجميع الحقيقة في نهاية الفيلم، حيث يختتم بمشهد غاية في الجمال، عندما يضع حسن ومرقص أيديهما معاً لمواجهة التطرف الطائفي، تأكيداً على حقيقة أن الجميع بشر والكل سواسية، وأن نار الفتنة لا تحرق طرفاً على حساب آخر، وإنما تحرق الجميع معاً.
خلال مسيرته قدم عمر الشريف أيضاً فيلمه "مسيو إبراهيم وزهور القرآن" والذي جاء تجسيداً لمعالجة قدمها الكاتب الفرنسي البلجيكي إريك ايمانويل، حيث تدور أحداث العمل حول السيد إبراهيم المسلم، صاحب متجر متواضع في أحد أحياء باريس، يرتبط بعلاقة صداقة قوية مع الفتى موييس اليهودي، والذي اعتاد سرقة بعض البضائع خلسة من "العربي"، في حين يراه السيد إبراهيم لكنه لا يبدِ له معرفته بالأمر، فقد كان يسعى لإتاحة الفرصة أمام الفتى لأن يتعرف على الآخر، وأن يتقبله كما هو من دون رتوش. السيد إبراهيم كان "صوفياً"، بحسب ما كان يصف نفسه، وأراد من خلال ذلك أن يبين لموييس أنه الآخر ليس على قدر البشاعة التي يتخيلها، وأن احتمالات إقامة علاقات صداقة مليئة بالمحبة أمر ممكن، إن رغب في ذلك.. أهمية "مسيو إبراهيم وزهور القرآن" تكمن في أن كاتب السيناريو، لم يركز من خلال شخصيات الفيلم على الأديان بقدر تركيزه على الإنسانية كهدف سامٍ، ونجح في تقديم الدين كرسالة سامية أيضاً ولكن من دون التوغل في التفاصيل المفرطة، والقوانين والتشريعات المصاحبة لذلك.
سلسلة سينمائية
وفي هذا السياق، كان للمخرج الراحل يوسف شاهين بصمة خاصة، ولعل فيلمه "اسكندرية ليه!"، يعد مثالاً رائعاً على أهمية قيمة التسامح في المجتمع، ورغم أن هذا الفيلم يعد بداية سلسلة أفلام (حدوتة مصرية، إسكندرية كمان وكمان، وإسكندرية - نيويورك) روى من خلالها يوسف شاهين سيرته الذاتية، إلا أنه مثل نظرة مهمة على واقع الحياة في الإسكندرية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث كان يعيش المسلم والمسيحي واليهودي معاً دون مشاكل، عطاء شاهين في هذا الجانب، لم يكن قاصراً على "اسكندريه ليه!"، وإنما امتد أيضاً نحو فيلمه "المهاجر"، حيث سلط فيه الضوء على صورة الإنسان الذي يكرس لقيم التسامح والانفتاح على الآخر، وكذلك اشتغل على الفكرة ذاتها في فيلمه "المصير" الذي أثار جدلاً واسعاً، لما حمله من جدل حول فكرة صدام الحضارات، وقدرة التسامح والإنسانية على الانتصار.
فيلم "لا مؤاخذة" لعمرو سلامة، أيضاً مثل قيمة مهمة في السينما العربية، وذلك لطبيعة الفكرة التي عالجها المخرج سلامة، واظهاره كيف يكون شكل المجتمع عند اعتماده لمعايير الازدواجية، والحكم على الآخر من خلال ديانته أو عرقه أو جنسيته، ولكن سلامة نجح في ترجمة الواقع وتقديم حقيقة المجتمع المصري، ومدى قدرته على التآلف وزرع المحبة بين كافة شراحه.
ضحكات ودموع
المتابع لإنتاجات السينما العربية، يكتشف أن السينما اللبنانية جادت هي الأخرى بأفلام عالجت فكرة التسامح، وقدمتها على طبق من ذهب، ولعل أفضل من ذهب بهذا الاتجاه كانت المخرجة نادين لبكي، عبر فيلمها "وهلأ لوين؟" حيث تناولت فيه لبكي قضية الخلافات بين المسلمين والمسيحيين بشكل جديد، إنساني، ووضعته في قالب الكوميديا السوداء المؤثرة، امتزجت فيها الضحكات بالدموع، من خلال قصة قرية تحمل نسائها هماً دائماً باندلاع شرارة الفتنة من جديد، بعدما اشتعلت سابقاً وأدت لفقد عزيز في كل بيت.
الأمر ذاته انسحب أيضاً على السينما المغربية التي قدم فيها المخرج حسن بن جلون، فيلمه "فين ماشي يا موشي"، وكذلك إسماعيل فروخي الذي قدم " الرجال الأحرار"، حيث حمل العملان رؤية خاصة للعالم والإنسان.
قائمة الأفلام العربية التي صيغت تحت راية التسامح، لم تتوقف عند هذا الحد، فقد امتلأت بأعمال أخرى، قدمها مخرجون لهم بصمة وحضور لافت على الساحة، لعل من بينهم المغربي نبيل عيوش، واللبناني زياد دويري، والسوري محمد ملص والفلسطينية آن ماري جاسر، حيث تجسد ذلك في فيلمها الأخير "واجب" ولا يفوتنا هنا أيضاً فيلم "المواطن" من بطولة المصري خالد النبوي وإخراج سام قادي، وغيرهم الكثير.