لديّ انحياز تقليدي لمن يرتدون لباس الشرف الوطني ويُقسمون على حماية الأوطان وافتدائها بأرواحهم.. عندي اقتناع راسخٌ بأن المؤسسات العسكرية كانت، ولا تزال
لديّ انحياز تقليدي لمن يرتدون لباس الشرف الوطني ويُقسمون على حماية الأوطان وافتدائها بأرواحهم.. عندي اقتناع راسخٌ بأن المؤسسات العسكرية كانت، ولا تزال، واحدًا من أهم عوامل تماسك النسيج الوطني في الدول العربية على اختلاف أنظمتها السياسية وتركيباتها الاجتماعية.. إن هذه المؤسسات هي العروة الوثقى الجامعة للهوية الوطنية، والعنوان الأعلى للانتماء والولاء.
وإذا تناولنا الأمر من الزاوية الاستراتيجية، فإن العالم العربي - في مجموعه - صار في وضعية دفاعية. وهو، كما نرى، أصبح هدفًا للهجوم من أكثر من اتجاه. وأخطر أنواع الهجوم على الإطلاق هو ذلك الذي ينبع من داخل الدول لا من خارجها.. إن التعامل مع مشهد إقليمي كهذا يمُثِل عبئا غير مسبوق على الأجهزة الأمنية والعسكرية بالدول.. فهو مشهد معقد ومتداخل ومتحرك.. أما التعقيد فسببه عدم وجود قضية واحدة يُمكن اعتبارها المُحرك الوحيد للأحداث والأزمات. لقد نشأ جيلي في زمن كانت فيه القضية الفلسطينية هي المسألة المركزية، وكانت تلك قضية واضحة في أبعادها ومحددة من حيث أطرافها.. اليوم لا يُمكن القول بأن قضية بعينها لها مثل هذا التأثير على العالم العربي في مجموعه.. بل ثمة بواعث مختلفة وأسباب مُتباينة للأزمات، بطول الإقليم وعرضه..
إن قوة العالم العربي من قوة أضعف حلقاته.. وإن الازدهار الشامل لن يتحقق بينما الفوضى ضاربة أطنابها في هذا البلد العربي أو ذاك..
هناك تحول استراتيجي بالمعنى الدقيق للكلمة.. وهو التجسيد الحقيقي لفكرة النظام الإقليمي الذي يُدافع عن وحداته لأن قوته من قوتها، واستقراره من استقرارها.. بل هو أيضًا تجسيدٌ لفكرة العروبة باعتبارها الهوية المؤسسة لدولنا الوطنية، وهي هوية جامعة شاملة تعلو على الانتماءات الطائفية والدينية والعرقية والقبلية.. إنها العروبة التي ننشدها جميعًا بمعناها المُعاصر المُنفتح، الذي يتفهم الاختلاف ويستوعب التنوع والتعدد، لا بالمعنى الضيق المُتعصب المُصاب بالاستعلاء والتطرف.. وما من شكٍ في أن جامعة الدول العربية تظل العنوان الوحيد لفكرة العروبة بالمعنى الذي ذكرته، بما تُمثله من تجسيدٍ حقيقي للرابطة الحضارية والوجدانية للشعوب والبلدان العربية.. واستمرار الجامعة في القيام بدورها عبر العقود الماضية، وهي أقدم في نشأتها من الأمم المتحدة، يأتي انعكاسًا لقوة هذه الرابطة الحضارية وعمق جذورها..
ليس هذا فحسب، بل إن من بوادر الأمل كذلك أن المخاطر التي نواجهها صارت جلية واضحة لمواطنينا من المُحيط إلى الخليج.. لم يعد الإرهاب المُتأسلِم، أو المُلتحف برداء الدين، فكرة نظرية أو مُجرد تصور ذهني، بل صار واقعًا ماثلاً أمامنا بكل مأساويته وكارثيته.. هو واقعٌ لفظته الأغلبية الكاسحة من مواطنينا بعد أن عاينت - في النموذج الذي قدمه «داعش» - مدى قُبحه ودمويته وتطرفه المقيت، وما ينطوي عليه من شرٍ وخراب... إن أفعال الإرهاب تفضح عن نوايا مُرتكبيها وتكشف عن زيف أجندتهم.
برغم الإجماع على رفض الإرهاب ومحاربته، فإن الإرهاب لا يُمثل التحدي الوحيد الذي يواجهنا ويوحد صفوفنا.. فالحاصل أن المنطقة العربية تواجه جُملة من التحديات والمُعضلات التي لا تقل فداحة عن الإرهاب.. بعض هذه التحديات ذو طبيعة جيوسياسية، مثل انفراط عقد السلطة المركزية في بعض الأقطار، كما هو الحال في اليمن وليبيا وسوريا، أو تنامي الأطماع الإقليمية لدول الجوار كإيران وإسرائيل..
وبعض التحديات الأخرى له أبعادٌ اقتصادية واجتماعية، مثل الانخفاض العالمي في أسعار النفط وتداعياته المُحتملة على الدول العربية جميعها وليس فقط المصدرة للنفط، أو التباطؤ الاقتصادي والعجز عن تحقيق التنمية المُستدامة ومُشكلات الانفجار السُكاني والشح المائي والتصحر... إلخ.
على أن المُعضلة الكبرى والأزمة الرئيسية تتمثل فيما نلمسه جميعًا من ضعف قدرتنا على الاستجابة الجماعية لهذه التحديات.. النظام العربي ما زال يفتقد للمؤسسية والقدرة على العمل الجماعي المُنظم في مواجهة تحديات تستلزم بطبيعتها استراتيجية مُشتركة.. ولا يخفى أن واحدًا من أوجه القصور الرئيسية في المنظومة العربية هو غياب استراتيجية دفاعية موحدة.. وهو أمرٌ يدعو للحزن، بل للحسرة الشديدة، بالنظر إلى أن اتفاقية الدفاع المشترك بين الدول العربية الأعضاء في الجامعة كانت قد وقعت في عام 1951.
وقبل وصولي إلى مسقط، كنت أشارك فيما يُسمى الخلوة الوزارية التي تستضيفها الإمارات العربية.. وهو تقليدٌ رائعٌ يرمي إلى جمع شمل وزراء خارجية الدول العربية في حوار غير رسمي، صريح وشفاف، حول القضايا التي تشغل العالم العربي وكيفية النهوض بالعمل العربي المُشترك... ولا أذيع سرًا إذا قُلتُ إن محور الحديث في هذه الخلوة كان يدور حول هذا السؤال بالتحديد: كيف نبث الحيوية في النظام العربي ليتمكن من مُجابهة التحديات المُحدقة بنا جميعًا؟... واسمحوا لي أن أضع القضية أمامكم بشيء من التبسيط... الدول العربية تمتد على مساحة شاسعة تناهز الـ13 مليون كيلومتر مربع، من الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي.. هذه المساحة تفرض واقعًا جغرافيًا وسياسيًا مُتباينًا على الدول العربية، وتُرتب نظرة مختلفة لدى كل دولة لأمنها وما يتهدده من مخاطر.. ليس منطقيًا أن تتشابه التهديدات التي تواجه موريتانيا مع تلك التي يتعرض لها الصومال أو لبنان... أو أن تتطابق نظرة مسقط لأمنها مع رؤية الرباط... كيف، والحال هكذا، نتحدث عن أمن قومي عربي؟ كيف نناقش استراتيجية دفاعية مُشتركة بين دول لا تجمع بينها رؤية موحدة لأمنها؟ هذه باختصار هي عُقدة النظام العربي.
بعض الوزراء طرح في الخلوة رؤية مفادها أن أولوياتنا، وإن كانت ليست متطابقة، فهي بالتأكيد ليست متنافرة... يتعين علينا إذن البحث عن القاسم المُشترك الذي تتقاطع عنده الأولويات العربية، والبناء عليه..
من الضروري كذلك البحث عن القيم العُليا الجامعة التي تؤسس للمنظومة العربية... إن كل منظومة إقليمية ترتكز في الأساس على جُملة من القيم والمبادئ التي تُنظم سلوك الأعضاء وتوحد أهدافهم.. وسأطرح هنا جُملة من المبادئ الشاملة والقيم العامة التي أتصور أنها ينبغي أن تشكل أساس المنظومة العربية.. وسأقدم هذا الطرح في صورة أسئلة لتحفيز التفكير، لأنه مطلوبٌ منّا جميعًا إعمال الفكر في هذه الأمور:
- هل يُمكن الاتفاق، في إطار منظومتنا العربية، على أن الحفاظ على كيان الدولة الوطنية يُعدُ أولوية رئيسية للنظام في مجموعه، وبالتالي لكل دوله؟ هل يُمكن أن نتبنى، بشكل جماعي، استراتيجيات ترمي إلى تحقيق هذا الهدف؟
- هل يُمكن الحديث عن قيمة أخرى، هي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول باعتبار أن من مسؤولية النظام في مجموعه رفض ومواجهة أي تدخل في الشؤون الداخلية لدولة عضو في الجامعة أو انتهاك سيادتها؟
- هل في مقدورنا الإقرار بأن ترحيل الأزمات العربية إلى مجلس الأمن والقوى الدولية، كما جرى في ليبيا وسوريا، قد أضر بهذه الأزمات وفاقمها وأسهم في تعقيدها، وأنه يتعين إيجاد آلية عربية فعّالة وناجزة (في إطار الجامعة) للتعاطي مع هذه الأزمات ومعالجتها؟
هذه أسئلة مفتوحة.. الإجابة عنها هي التي تُحدد مستقبل النظام العربي الذي ننشده.. الجامعة ليست إرادة عُليا فوق الدول، ولكنها حاصلٌ لإراداتهم الجماعية...
لا شك أننا جميعًا نُدرك المعنى الشامل الذي تنطوي عليه التهديدات الأمنية في عصرنا، والتي لم تعد بأي حال مقصورة على المخاطر ذات الطبيعة العسكرية بل تشمل كُل ما يُدمر نسيج المُجتمعات ويُعرض استقرارها للخطر على المدى الطويل..
إن دولنا لا قِبلَ لها بمواجهة التحديات فُرادى... المنطقة في حاجة إلى مشروع إنعاش اقتصادي ضخم يُفجر إمكانات الشباب العربي ويستفز طاقاتهم الكامنة ويستوعبهم من كافة النواحي؛ المادية والروحية.. يتعين على مُجتمعاتنا أن تتحول إلى مولدات ضخمة للثروة عبر التركيز على القطاعات عالية الإنتاجية، والتخلي عن إدمان الاعتماد على الموارد النفطية، وطرق أبواب الاقتصاد المُرتبط بالثورة الصناعية الرابعة.. لقد خطت بعضُ مُجتمعاتنا خطواتٍ معتبرة على هذا الطريق، فيما البعض الآخر ما زال يُكابد ويتعثر.. ويقيني الراسخ أن العالم العربي لن يستطيع تحقيق قفزة كُبرى نحو المستقبل إلا في إطار جماعي، ومن خلال جهد حقيقي يُبذل في اتجاه التكامل الاقتصادي..
إن جامعة الدول العربية ما زالت الإطار الوحيد الذي يُمكن العمل من خلاله لتحقيق هذه الأهداف، ومواجهة تلك التحديات.. صحيحٌ أن عمل الجامعة يرتبط في الأذهان بالمسائل السياسية ولكنه في واقع الأمر أشمل من ذلك بكثير.. إن الجامعة ومنظماتها المُتخصصة تُمثل مستودعًا حقيقيًا للخبرات العربية في كافة المجالات، وهي قادرة تمامًا على طرح أفكار ومُبادرات تُغير الواقع العربي بصورة جذرية إلى الأفضل.. ودورها في هذا الصدد لا يقل أبدًا عن دورها السياسي في مواجهة الأزمات العربية المُستفحلة..
لا شك أن تحرك العرب بشكل جماعي من خلال جامعتهم يُعطيهم قوة ويمنحهم وزنًا في مواجهة هذه الكيانات الدولية الكُبرى.
أكرر مرة ثانية أن الجامعة ليست منظمة فوق الدول، بل هي جسر وأداة للتنسيق بينها.. ومتانة هذا الجسر من قوة الإرادة الجماعية للدول العربية، ومن صدق عزيمتها على المُبادرة والفعل.. الأزمات، كما قُلت، تدفع للتضامن.. ولكن ما زال الطريق أمامنا طويلاً لكي نصل إلى المستوى المأمول من العمل الجماعي العربي، والتحرك السياسي المُشترك...
إن العمل العربي المشترك صار اليوم فرضًا لا اختيارًا، وضرورة بقاء لا رفاهية... وأدعو الله مخلصًا أن تجتمع دولنا وشعوبنا على هذه الرؤية وأن تتوحد أمتنا على تلك الغاية.
*نقلاً عن " الشرق الأوسط "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة