الإعلام الداخلي والإعلام الخارجي: "مصر والسعودية"
للمرة الثالثة تفشل مدرسة الإعلام الداخلي، وسياسة الإعلام المسجون داخل الحدود والموجهة فقط لعقول شعوب الدولة الواحدة
لن أمل من الكتابة والحديث عن هذا المصطلح "الأمن القومي الإعلامي العربي" حتى يخلق الصدى المطلوب، ويجد التجاوب المنشود من مسئولي المؤسسات الإعلامية الخاصة والحكومية في العالم العربي، فتلك نظرية متكاملة تحمل في طياتها حماية ثوابت أوطاننا العربية، وفي نفس الوقت تحمل أيضا عوامل حماية الإعلام العربي كمهنة ورسالة.
للمرة الثالثة تفشل مدرسة الإعلام الداخلي، وسياسة الإعلام المسجون داخل الحدود والموجهة فقط لعقول شعوب الدولة الواحدة، أذكر أنني تحدثت مع من أتاحت لي فرصة لقائهم من المسئولين، وبدافع الحب والغيرة على وطني ناديت بضرورة الالتفات إلى الإعلام الخارجي، كفانا إعلاما داخليا ثبت بالدليل القاطع فشله
سبق أن كتبت عدة مقالات في جريدة "الشرق الأوسط" عن هذا الموضوع، وكنت في غاية السعادة من التفاعل الذي حدث بدءا من المصطلح مرورا بالأسس التي تقوم عليها تلك النظرية الإعلامية.
اليوم أعاود الدخول إلى هذا الموضوع من باب آخر جديد، وهو السياسات الإعلامية التي انتهجتها بعض الدول العربية في رسم وتنفيذ إعلامها، ولعل الذي حرضني على الدخول إلى هذه الزاوية تلك الجلسة التي شرفت بإدارتها في منتدى مسك للإعلام الذي عقد مؤخرا في القاهرة في 26 أكتوبر/تشرين الأول الشهر الماضي.
كان عنوان الجلسة شيقا جدا ومحفزا على التفكير "هنا القاهرة – هنا الرياض" أراد منظمو الجلسة أن يتطرقوا إلى كيفية الاستفادة من التجربة الإعلامية المصرية وتأثيرها على الإعلام السعودي، لكن عقلي وفكري كانا في مكان آخر، كانا يغوصان في سياستين إعلاميتين مختلفين تماما، وشاءت الأقدار أن تتكاملا.
نحن أمام سياسة إعلامية تقوم على تبني الإعلام الداخلي نهجا وفكرا وممارسة، وهو ما تمثل في المدرسة الإعلامية المصرية، رائدة إعلام الداخل، وسياسة إعلامية أخرى تتبنى الإعلام الخارجي نهجا وفكرا وممارسة وصناعة، وهو ما تمثل في المدرسة الإعلامية السعودية، رائدة الإعلام الخارجي.
ولحسن حظ الدولتين الشقيقتين أنهما لم يختلفا سياسيا، وظل التوافق والود هما الذي يربطاهما بفضل الله.
أولا المدرسة الإعلامية المصرية رائدة الإعلام الداخلي، واسمحوا لي أن أحدد المرحلة التي سأنطلق منها تاريخيا وزمنيا، وهذا تحديد لم أختره وإنما فرضته علينا متغيرات الزمن والصناعة الإعلامية، فمنذ بداية التسعينيات دخل العالم العربي مستجدات إعلامية مهمة، فهي حقبة ميلاد التجربة الفضائية العربية، ففي ديسمبر/كانون الأول عام 1990 انطلقت أول قناة فضائية عربية، وهي الفضائية المصرية، وبعدها بتسعة أشهر تحديدا في سبتمبر/أيلول 1991 انطلقت قناة "mbc" وهو اختصار لمركز تلفزيون الشرق الأوسط".
سأظل في التجربة المصرية الإعلامية، كانت البداية الإعلامية الفضائية بداية حكومية رسمية بامتياز "الفضائية المصرية تابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون التابع لوزارة الإعلام، توسعت وزارة الإعلام المصرية في الأذرع الفضائية داخليا فقط، فأسست قناة النيل والمعلومات، ثم بعد ثمانية أعوام وتحديدا في 1998 أسست قطاع القنوات المتخصصة، منها "الرياضة" و"الثقافة" و"التعليم" وغيرها.
كان إعلاما فضائيا مملوكا للدولة وموجها إلى الداخل المصري فقط، موجها في المحتوى والفئات المستهدفة وفي الصناعة وفي مقر الانطلاق أي في كل شيء، إعلاما داخليا شكلا وموضوعا وجميعه محمول على "النايل سات والعرب سات" وفقط، ظلت التجربة الإعلامية المصرية الفضائية وغير الفضائية وحتى في الصحافة المكتوبة محلية أي مصرية داخلية وفقط، ولم تحسب أي محاولة واحدة لأي استثمارات مصرية في أية وسيلة إعلامية خارج مصر بشكل مباشر أو غير مباشر بل كان كله داخليا وفقط.
ظلت التجربة المصرية تسير على قدم واحدة، وهي القدم الحكومية حتى عام 2001 وهذا تاريخ مهم جدا.
حين انطلقت شبكة قنوات "دريم" لتكون أول شبكة تلفزيونية مصرية غير مملوكة للحكومة، حيث تديرها "شركة دريم للإعلام" التي يملكها د. أحمد بهجت رجل الأعمال المصري، لم يمض وقت طويل، فقط ثلاثة أعوام وتحديدا في 2004 ولدت تجربة إعلامية خاصة غير حكومية، وتحديدا في الصحافة الورقية حين انطلقت "جريدة المصري اليوم" أول صحيفة يومية مستقلة أسسها رجل الأعمال المصري كامل دياب.
فُتحت شهية التجارة المصرية للدخول إلى الإعلام، فانطلقت عام 2005 شبكة تلفزيون "المحور" المملوكة لرجل الأعمال المصري د. حسن راتب، وهي أيضا موجهة للداخل المصري.
وبعدها بثلاثة أعوام أخرى وتحديدا في 2008 انطلقت شبكة تلفزيون "الحياة"، وكانت مملوكة لرجل الأعمال د. السيد البدوي، وشبكة قنوات "أون" التي كانت مملوكة لرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس.
ظلت هذه القنوات تمثل الإعلام الخاص، أو الذراع المصرية الخاصة للإعلام حتى 2011، ونستطيع أن نؤكد أنها أحدثت حراكا مهما في مواجهة الإعلام الحكومي الرسمي المصري.
في 2011 حدث متغير كبير في مصر، انطلقت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، وهنا انتبه الدارسون والراصدون للسياسات الإعلامية لتقييم التجربة الإعلامية المصرية باعتبارها رائدة الإعلام الداخلي، لماذا؟
لأن القاعدة الإعلامية تقول "إن الدول التي تستثمر طاقاتها كاملة في الإعلام الداخلي فقط أي الموجه لشعبها دون الاهتمام بمن هم خارج حدودها، المفروض أن تكون نسبة حدوث احتجاجات أو ثورات قليلة جدا؛ لأن قاعدة الإعلام الداخلي أيضا تقول إن الإعلام الداخلي إعلام أنظمة حتى لو كان خاصا.
وبالتالي محصلة التجربة من ديسمبر/كانون الأول 1990 وحتى يناير/كانون الثاني 2011 على مدار 21 سنة كانت ضعيفة أو تقترب من الصفر، وأنا هنا لست مع هذا النوع من الإعلام أو ضده أنا أعيد تقييم نتائج سياسة إعلامية في مرحلة معينة.
ما الذي حدث في الإعلام المصري بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011؟
البديهي أنه من المفروض أن تكون التجربة قد استوعبت، يعني وضع بيض الإعلام كله في سلة واحدة خطأ، فتوجيه الاستثمار الحكومي المصري والخاص للإعلام الداخلي فقط غير مجدٍ بل عديم التأثير.
الغريب جدا أن السياسة الإعلامية المصرية بعد 2011 لم تتغير إطلاقا، بل تكرست أكثر، فلم نر قناة فضائية مصرية واحدة موجهة للخارج أو صحيفة أو إذاعة أو أي شيء، على العكس تم التوسع في الإعلام الداخلي فتم إنشاء شبكة تلفزيون "سي بي سي"، وهي مملوكة لرجل الأعمال محمد الأمين.
وذلك يوليو/تموز 2011 أي بعد سبعة أشهر من الثورة، وقبلها بشهر تم إنشاء شبكة تلفزيون "النهار" المملوكة لرجل الأعمال علاء الكحكي.
وأيضا أشير إلى "قناة التحرير" التي انطلقت عشية تنحي الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وتم تغيير اسمها إلى "قناة تن"، أشير هنا إلى تجربة إعلامية مصرية خاصة أيضا في مجال الصحافة الورقية، وهي "جريدة الوطن" التي انطلقت في 2012 أي بعد الثورة بعام، وهي خاصة وليست حكومية أيضا وموجهة للداخل المصري.
ظلت تلك الوسائل الإعلامية المصرية الخاصة والعامة تمارس عملها وتقدم رسائلها الموجهة إلى الداخل المصري وفقط، وتوحدت كاملة لتساهم بشكل أو بآخر في قيام ثورة 30 يونيو/حزيران ضد حكم الإخوان وإسقاط محمد مرسي.
وربما هنا نشير إلى فعالية الإعلام الداخلي في الانحياز إلى الشعب ضد حكم إرهابي بامتياز ، بعد ثورة 30 يونيو/حزيران، وقعنا جميعا كمصرين في تحدٍ صعب جدا، تبلور في الهجمة الشرسة على ثورة 30 يونيو/حزيران ووصفها بالانقلاب، وقتها تأكد للمسئولين المصريين وحتى الأشقاء العرب أن المعركة لها شق مهم وهو الإعلامي منها.
خصوصا أن الآلة الإعلامية الإخوانية وفي مقدمتها قنوات "الجزيرة" خصوصا "الجزيرة إنجلش" والقنوات التركية الناطقة باللغة العربية وغيرها من القنوات التي أسسها التنظيم العالمي للإخوان التي تتحرك من قاعدة أثبتت التجارب والأحداث التاريخية أن مصر أهملتها وهي الإعلام الخارجي أي الموجه إلى خارج الحدود وإلى شعوب أخرى غير شعوب البلد الواحد.
رغم كثرة القنوات المصرية الحكومية والخاصة فلم تنجح في المواجهة لأنها منذ إنشائها صممت لتكون موجهة للداخل وتم تحميلها على "النيل سات والعرب سات" وهي أقمار لا تتجاوز الحدود الجغرافية للبلد الواحد، في حين هناك قنوات تغطي وجهة المعمورة كاملا.
وكانت المحصلة أننا كشعب مصري يفتخر بثورة 30 يونيو/حزيران، ويعتز بها اكتشفنا أننا لم نستطع إقناع الآخرين بنبل ثورتنا، لم نصل إلى المغرب العربي الكبير "خصوصا الجزائر وموريتانيا والمغرب"، ولم نصل أيضا لأوروبا وبقية البلاد العربية، وظل لوقت قريب كثيرون يطلقون على ثورتنا انقلابا.
للمرة الثالثة تفشل مدرسة الإعلام الداخلي، وسياسة الإعلام المسجون داخل الحدود والموجهة فقط لعقول شعوب الدولة الواحدة، أذكر أنني تحدثت مع من أتاحت لي فرصة لقائهم من المسئولين، وبدافع الحب والغيرة على وطني ناديت بضرورة الالتفات إلى الإعلام الخارجي، كفانا إعلاما داخليا ثبت بالدليل القاطع فشله.
نبحث عن تجربة إعلامية مصرية خارجية، تجربة عابرة للحدود.
لم يمر وقت طويل وجاءت الإجابة قاطعة، حيث تجلت سياسة الدولة في الاستثمار فيما هو قائم أي "زراعة المزروع" الدخول في شراكات أو شراء قنوات قائمة بالفعل وتؤدي وظيفتها، مثل "دريم – الحياة – أون" وغيرها.
ولم تكتف بذلك بل أسست في 2017 شبكة قنوات "دي إم سي"، وتم ضخ استثمارات ضخمة فيها تكفي لإنشاء منظومة إعلام خارجي ناجحة، كان الإصرار على تلك السياسة الإعلامية، إعلام الداخل وفقط.
إعلام تؤكد مسارات الحياة والأحداث والتجارب أنه إعلام غير قادر على الدفاع عن الأمن القومي للبلد الواحد، فما بالك بإعلام نريده أن يكون حاميا ومدافعا عن الأمن القومي العربي الأوسع.
نكمل في المقال القادم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة