كيف تواكب "العربية" مستجدات المعارف الحديثة؟
المشاركون في "مؤتمر اللغة العربية" في جامعة القاهرة يقدمون أوراقاً علمية تدرس التداخل بين "اللغة العربية" وغيرها من "الحقول المعرفية"..
ليس مؤتمراً عادياً ذلك الذي ينظمه قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة، تحت عنوان "اللغة العربية وتداخل الحقول المعرفية"، والذي من المقرر أن تبدأ فعالياته الثلاثاء 28 مارس 2017، ولمدة ثلاثة أيام، وبمشاركة عدد كبير من الباحثين المصريين والعرب والأجانب من تخصصات مختلفة، يعرضون بحوثا وأوراقا علمية تعالج الجوانب النظرية للموضوع وتدرس نماذج متنوعة من هذا التداخل بين "اللغة العربية وغيرها من الحقول المعرفية" كل حسب رصده ورؤيته.
وربما تبدو أول أسباب تجاوزه الاعتيادية، بالنسبة لنظائره من المؤتمرات الأخرى، هو موضوعه الذي بات في بؤرة اهتمام المعنيين باللغة العربية والتحديات التي تواجهها، وبخاصة في ظل التحولات المتسارعة والانفتاح المهول بين الحقول المعرفية والتقنية الحديثة، وهو ما يعني التفات القائمين على المؤتمر ومنظميه إلى ضرورة الاتجاه إلى القضايا والموضوعات التي تتقاطع مع الهموم المعاصرة وتجنح إلى ربط الدراسة اللغوية والأدبية بمثيلاتها في العلوم والحقول المعرفية الأخرى.
أما السبب الثاني فيعود إلى المحاور والموضوعات الرئيسة التي عالجتها الأوراق والملخصات البحثية المشاركة في المؤتمر، ومنها ما يغري بقراءته أو التطلع لقراءة البحث كاملا في صورته الأخيرة، فضلا عن الأسماء المرموقة المشاركة من مصر والعالم العربي والدول الأجنبية، ومنها ما هو معروف بإسهاماته وإنجازاته المعرفية في مجال تخصصه أو الحقول البينية الأخرى.
هذا الالتفات الواعي إلى بحث وقراءة المستجدات المعرفية خاصة فيما يتعلق ويتداخل بقضايا وهموم اللغة العربية، ليس جديدا على واحد من أعرق أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات المصرية والعربية، وهو القسم الذي ارتبط باسم مؤسسة الدكتور طه حسين، والذي كان وعيه سابقا ومتطورا للدرجة التي جعلته يكتب في حينه:
"أن لغتنا -اللغة العربية- "قد صادفت من المشكلات مثلما تصادف في هذه الأيام؛ فليس هذا الوقت هو الوقت الأول الذي لقيت فيه اللغة العربية حضارات لم تكن تعرفها وعلومًا لم تكن تخطر للعرب. ومن أيسر الأمور أن يرجع أحدنا إلى أي كتاب من الكتب الفلسفية العربية القديمة، ليرى كيف استطاع العرب أن يسيغوا ما كتب عن فلسفة أرسطو وأفلاطون وطب جالينوس، إلى آخر هذه العلوم التي استطاعت اللغة العربية أن تسيغها وأن تطوعها لقواعدها، وأن تطوع لها قواعدها أيضًا. وإذا كان هذا قد دلّ على شيء فهو إنما دل على أن اللغة العربية ليست باللغة التي كتب عليها الجمود، وليست باللغة التي كتب عليها أن تقصر على أهل البادية ومن يشبههم من أهل المدن أو القرى العربية القديمة، وإنما هي لغة خلقت لتكون لغة عالمية، بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها، دون أن تنزل عن أصولها وعن قواعدها وعن خصائصها التي تمتاز بها من سائر اللغات".
يتناول المؤتمر أربعة محاور أساسية؛ وهي:
المحور الأول: تداخل الحقول المعرفية "الظاهرة وتاريخها وجداولها في الدراسات العربية"، والمحور الثاني: العربية والعلوم الإنسانية والاجتماعية "علم النفس، علم الاجتماع، السياسة، الجغرافيا، التاريخ، الفلسفة والدين والأخلاق والتصوف، الوثائق والمخطوطات، والآثار". والمحور الثالث: العربية والفنون "الموسيقى، الفنون التشكيلية، السينما، فنون الصورة"، والمحور الرابع: العربية والعلوم الطبيعية "تكنولوجيا المعلومات ووسائط الاتصال الحديثة، الفلك، الرياضيات، الإحصاء، الفيزياء، قضايا تعريب العلوم".
في المحور الأول المعني بدراسة "تداخل الحقول المعرفية" (الظاهرة وتاريخها وجداولها في الدراسات العربية)، ثمة مجموعة من البحوث والمشاركات العلمية الرصينة، من أبرزها المحاضرة الافتتاحية التي سيلقيها الناقد الدكتور سيد البحراوي بعنوان "تواصل المعارف قبل العلم الوضعي وبعده". وفيها ينطلق البحراوي من حقيقة لا يمكن إنكارها وهي "أن التواصل بين الخبرات البشرية سواء في الممارسة العملية أو في التفكير والتدوين بما في ذلك من معارف وعلوم، هو قائم دائمًا في كل زمان ومكان منذ بداية الإنسان علي الأرض. ومن هذا المنظور يمكن التعجب من تلك الضجة المعاصرة (والتي بدأت بواكيرها منذ ثلاثينيات القرن الماضي) حول تداخل العلوم والمعارف (Interdisciplinary.).
وسيشير البحراوي، في معرض محاضرته الافتتاحية" إلى مفهوم البلاغي القديم عبد القادر الجرجاني عن "النظم" والذي يرادفه "معاني في النحو"، مؤكدا أنه قد يكون أول محاولة في التراث العربي تحقق معني البينية؛ إذ رد "الإعجاز" والقيمة الفنية إلى منطقة بينية تقع بين علمي النحو، والبلاغة. وهو ــ بهذا الإنجازــ يمكن أن يكون قد أنشأ علماً جديداً نسميه "علم النظم" أو "علم معاني النحو" الذي يمكن أن يكون أساساً لبعض المناهج "الأسلوبية" و"علم اجتماع النص" في العصر الحديث، نظرًا لتخلصه من كثير من عيوب البلاغة مثل "المعيارية" و"الأخلاقية" و"الجزئية"، مشيرا إلى أنه يتحدث عن البلاغة كدراسة أو "علم" وليس عن فنون البلاغة الممارسة في الإبداع الأدبي قديما أو حديثا.
أما المحور الثاني "العربية والعلوم الإنسانية والاجتماعية" (علم النفس، علم الاجتماع، السياسة، الجغرافيا، التاريخ، الفلسفة والدين، والأخلاق والتصوف، الوثائق والمخطوطات، والآثار)؛ وهو من أهم أغنى محاور المؤتمر، فيعرض خلاله الناقد والأكاديمي د.سامي سليمان أحمد ورقته البحثية المعنونة بـ "الدراسات الثقافية والأدب العربي"، والتي يؤكد فيها على أن مجال الدراسات الثقافية بات واحدا من أبرز المجالات البحثية التي تقوم على التداخل بين مجموعة من العلوم، وفي إطار ذلك التداخل يتم تناول الأدب من حيث ظواهره وقضاياه وأنواعه وتحولاته المختلفة.
ويشير سليمان إلى أن الدراسات الثقافية المعاصرة تتخذ من البحث عن الأدوار الاجتماعية والسياسية التي تؤديها الثقافة منطلقًا عاما لها. لافتا إلى أن حدود الدراسات الثقافية في الممارسة العلمية قد اتسعت في أمريكا وعدد من الدول الأوربية، لاسيما إنجلترا وفرنسا وألمانيا، في العقود الأربعة الأخيرة. وصار هذا الحقل المتسع يضم عددًا غير محدود من العلوم الإنسانية والاجتماعية التي لا يكاد يضبطها حصرٌ أو تقييدٌ؛ ولذا يتصف حقل الدراسات الثقافية بأنه، نشاطٌ بحثي يقوم على تداخل الاختصاصات العلمية، كما يتصف هذا الحقل، بانفتاحه على موضوعات جديدة لم تكن تنال اهتمام الباحثين في الأطر التقليدية؛ فالدراسات الثقافية منحت اهتمامًا كبيرًا لموضوعات وقضايا كانت في منطقة التهميش والاستبعاد في الدراسات التقليدية للثقافة.
ويأتي المحور الثالث بعنوان "العربية والفنون" (الموسيقى، الفنون التشكيلية، السينما، فنون الصورة")، وفيه يقدم الدكتور أشرف دعدور ورقة بحثية بعنوان "اللغة ومصطلحات الفنون"؛ يسعى فيها إلى دراسة العلاقة بين اللغة والاصطلاحات الناشئة في مجال الفنون؛ فالاحتكاك البشري في المعاملات المادية والعقلية وما يندرج تحتهما، وما يؤديه من تأثير وتأثر ينعكس على اللغات التي تلجأ إلى ضروب شتى لاستيعاب الآخر، تارة بالنقل "التعريب"، وتارة بالترجمة، وتارة بالاشتقاق، وتارة بالنحت إلى غير ذلك من وسائل.
مشيرا إلى أن من أبرز الصعوبات الحقيقية التي تواجه دارس الظاهرة في الكلمات التي تحمل معاني عقلية، أو فكرية، أو عقائدية؛ ونضع لها كلمات من اللغة قد تقصر عن الدلالة المقصودة، أو تحملها ما ليس فيها، وهو ما يهتم به هذا البحث.
وأخيرا يأتي المحور الرابع: "العربية والعلوم الطبيعية" (تكنولوجيا المعلومات ووسائط الاتصال الحديثة، الفلك، الرياضيات، الإحصاء، الفيزياء، قضايا تعريب العلوم). وفيه مجموعة من البحوث والدراسات التي انشغلت بفحص هذا الجانب، تحليلا ومقاربة.