"السارد والتشكيلي".. حينما يتجسد النص المحفوظي "بصريا"
نواة الكتاب مقالة نشرها المؤلف بعنوان "رسامو نجيب محفوظ" رأى فيها البحث عن مساحة لم يتطرق إليها النقد في دراسة محفوظ
في مذكراته التي نشرها المفكر المصري الراحل رجاء النقاش عنه، قال نجيب محفوظ "أنا لم أفكر يومًا في أن أصبح فنانًا تشكيليا رغم حبي للفن التشكيلي، ولكن كان ممكنًا أن أحترف "الموسيقي" من شدة افتتاني بها، ولكن ـ على أي حال ـ فقد كان للقدر تصاريف أخرى".
وكان للقدر فعلا تصاريفه، فأصبح نجيب محفوظ "فنان الرواية العربية الأول" بلا منازع. ورغم إعلانه الصريح أنه لم يفكر أن يكون فنانا تشكيليا رغم استعداده الهائل وموهبته الفطرية فإن أعماله لم تخل أبدا من ظلال للفن والرسم والتشكيل، بالحرف والتصوير، كما أن نصوصه الغنية كانت منجما لا ينفد للفنانين والرسامين الذي صالوا وجالوا وأبدعوا عشرات بل مئات الأعمال المستلهمة من رواياته وشخوصه الخالدة، فضلا عن تباري كبار الفنانين والمصممين في إبداع أغلفة نصوصه أو رسم اللوحات الداخلية المصاحبة لها.
ورغم أن هذا الموضوع مغرٍ بالدراسة والبحث، فربما لم يلتفت له باستبصار حقيقي ووعي بالحدود المائزة بين السرد والتصوير والتشكيل إلا فنان وناقد تشكيلي يمتلك بصيرة نافذة وحس مرهف مع امتلاك للأدوات التحليلية التي تمكنه من قراءة وتحليل الأعمال البصرية الموازية للنص المحفوظي، هو أشرف أبو اليزيد الذي صدر كتابه الجديد "نجيب محفوظ ـ السارد والتشكيلي" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
نواة هذا الكتاب ملف كبير أعدته مجلة العربي الكويتية في ديسمبر 2006 عقب وفاة محفوظ في نهاية أغسطس من العام ذاته، ضمن هذا الملف نشر أشرف أبو اليزيد مقالة/ دراسة بعنوان "رسامو نجيب محفوظ" يقول عنها "رأيت فيها أن أبحث عن مساحة لم يتطرق إليها النقد في دراسة أعمال الأديب الكبير، لذا بدت لي باحة الفن هي الأرحب، والأجدر بالتفاتة عميقة، شكلت منذ ذلك الوقت تحولا كبيرا في رؤيتي لعالم نجيب محفوظ الروائي، إذ أن البحث اللاحق لم يكمل ما بدأتُ وحسب، بل وأضاف زوايا جديدة، لا تزال تتناسل، بما جعلني أدرك عِظَمَ التأثير الذي أودعه هذا الكاتب الكبير في الفنون جميعا".
وإذا كانت تلك المقالة، التي حملت عنوان «رسامو عالم نجيب محفوظ»، قد غرست الفكرة الأولى، فإن علاقة الأديب بأحد عناصر التشكيل نكتشفها في روايته المبكرة «رادوبيس» حين قدم محفوظ لنا الصبي الفنان المصري القديم «بنامون» رسام جدران الحجرة الصيفية من مقبرة الأميرة «رادوبيس». تؤكد تلك الرواية عناية الكاتب بتقديم رسم المقابر فنا متخصصا، بخطواته، وتقدير رساميه، بشرًا لهم مواهب وقدرات، حتى أن ذلك الفنان الصغير يصبح عشيق الأميرة الساحرة.
كما كان اهتمام محفوظ اللافت بالفن كامنا حاضرا لدى كاتبنا، يبثها رواياته، من حين لآخر. بل إن ارتباطه بالفنانين حوله، مصورين، وسينمائيين، حتى في دائرته القريبة ضمن أصدقائه "الحرافيش"، وعمله المرتبط بالسينما، وأبطالها، وبطلاتها وكتابها، ومخرجيها، جعل الفن جزءا ركينا من نسق رؤيته للعالم، فلا بد أن يحضر الفنان في أعماله الروائية، أيا كان الفن الذي يمارسه.
ينطلق الكتاب من فرضية واضحة ولها ما يقدمها برسوخ وطمأنينة حينما يؤكد "لسنا نبالغ حين نستهل سطور هذا الكتاب/ الألبوم بالتأكيد على دور استثنائي أدَّاهُ الروائي الكبير نجيب محفوظ، وأثر به، في الثقافة العربية المعاصرة، وهو دورٌ تخطى حدود فن السَّرد الأدبي إلى فضاءات الفنون التي تماست معه. وإذا كانت السينما أهم تلك الفنون، وأشهرها، فإننا نخص بكتابتنا فنا آخر، هو التشكيل، نعتقد أنه لم يكن أقل تأثرا بأدب هذا السَّارد الفذ".
وهكذا يوسع أبو اليزيد الدائرة فلن يقتصر تناوله التحليلي على التشكيل بحدود التصوير الكلاسيكي، وإنما ـ كذلك ـ إلى الفنون الأخرى المرتبطة به، والدائرة في فلكه، مثل الحفر والرسم والكاريكاتير والشرائط المصورة (Comics) والنحت، وصولا إلى صناعة الكتب، وتصميم أغلفتها، وملصقات الأعمال الفنية والفعاليات الثقافية، بل والرسوم الجدارية (Grafitti).
ويلفت أبو اليزيد الانتباه (فيما يشبه النبوءة أو الاستشراف للبعيد) إلى أنه إذا كان التشكيل الذي يمثل صدى أعمال محفوظ يشغل جانبه الأكبر أغلفة الأعمال الأدبية، ورسومها الداخلية الشارحة، فإن هناك مستقبلا نراه قريبا، نجد هذه الأعمال وقد وضعت قدميها الراسختين على أرض الروايات الجرافيكية والرسوم المتحركة، ويكاد يجزم بأن انتشار هذه الصيغ الفنية التعبيرية في فضاء عربي سيجعلها تنهل من أدب محفوظ الثري والحيوي والتاريخي في آن.
إذن توسعت (المقالة/ الدراسة/ الكتاب) لتغطي مساحات شاسعة غير مأهولة في هذه الأرض البكر، عن علاقة محفوظ نفسه بالفن التشكيلي وتجليات تلك العلاقة في أعماله واستقصاء النماذج الروائية والقصصية التي جسدت شخصية فنانين أو متصلين بالفن التشكيلي، إبداعا ونقدا وتذوقا. كل ذلك قبل أن يتطرق إلى الرسومات والأعمال التي صاحبت أعماله المنشورة (حين نشرت مسلسلة على صفحات الجرائد والمجلات أو حين نشرها بين دفتي كتاب) وبيان الطرائق الفنية المائزة لأصحابها من كبار الفنانين المصريين والعرب والأجانب؛ كيف قرأ كل منهم النص المحفوظي وكيف جسد برؤيته نصا بصريا موازيا.
وكان منطقيا أن تحتل الأغلفة والرسومات التي أبدعها كبار رسامينا لروايات محفوظ موقعها المركزي من الكتاب ذلك أن وعلى مدار ما يقرب من 65 عاما أنتج خلالها محفوظ 56 كتابا روائيا وقصصيا، فإن ما يمكن أن نطلق عليه "متحفا بصريا" مذهلا قد تشكل بدوره في موازاة هذه الأعمال.
سيقف الكتاب وقفات متأنية مع الفنان الراحل جمال قطب الذي أصبح اسمه لصيقا بعالم نجيب محفوظ، لأكثر من نصف القرن، حين رسم أغلفة رواياته وقصصه القصيرة من بداياته الأولى وحتى أعماله الأخيرة في أكثر من خمسين عملاً، سواء تلك الصادرة عن دار النشر أو المنشورة في مجلة الدوحة. وسيرصد كيف تطورت ريشة جمال قطب مع التطور الفكري والفلسفي لكتابات نجيب محفوظ، بدءًا من الواقع والتاريخ "رادوبيس" والفانتازيا كما في روايات محفوظ الأولى، إلى التناولات الفكرية والنفسية "السراب"، والرمزية "زقاق المدق"، وصولا إلى عالم العبث واللا معقول كما في "تحت المظلة". بل واستعار جمال قطب ابتسامة نجيب محفوظ في أكثر من بورتريه، وهو يجلس محاطا بأبطال رواياته.
قبل وفاة محفوظ ومع انتقال حقوق نشر أعماله إلى دار الشروق، ستظهر أغلفته بمنظور مغاير ولمسة فنية مختلفة تماما بتوقيع حلمي التوني، إذ بدا -وكما يقول مؤلف الكتاب- أن التأويل العربي المعاصر لروايات نجيب محفوظ قد اختلف، مع الطبعة الأحدث لأعمال محفوظ لدى ناشره الجديد دار الشروق ورسامها الأمهر الفنان حلمي التوني "فقد غابت التفسيرات المباشرة للشخوص، وسبح اسم نجيب محفوظ عاليا، ليكون أهم ما في الغلاف، وتنوعت الأرضية بلون تدرجت باليتته مع كل عنوان، واستند ركن الغلاف إلى أيقونة أو أكثر من مفردات حلمي التوني الشعبية البهيجة وما أكثرها وهي تتماس مع عالم محفوظ القاهري والشعبي".
إن هذا الكتاب يمثل رحلة ممتعة، جديدة، في هذا العالم الثري؛ عالم رسامي نجيب محفوظ وأبطاله، وبطلاته أيضا.