بالصور.. "العين" تفتح "باب" قاهرة نجيب محفوظ في جولة مع عشاقه
مشروع فريد للسياحة الثقافية، تحت عنوان "باب" لزيارة قاهرة نجيب محفوظ على مدى يومين، بالتزامن مع انعقاد معرض القاهرة الدولي للكتاب.
على مر التاريخ، ونهر الرحلات والزيارات عبر العصور للقاهرة التاريخية يتصل بنعومة، لا ينقطع ولا يتوقف، يتخذ مساره المقدور، كأنما هو الفعل الموازي لمسار نهر النيل في جلاله وشموخه. لكن دائما من بين هذه الرحلات هناك رحلة مختلفة، رحلة لها تكوين وخصوصية، أول سماتها "القصدية"، وثانيها "العشق"، وثالثها "الكثافة". ولعل هذا ما ينطبق حرفياً على الرحلة الفريدة التي أعدها كل من الكاتب والروائي الكويتي عبدالوهاب الحمادي والكاتبة الكويتية تسنيم المذكور لنخبة من المثقفين والأكاديميين والكتاب الخليجيين (من الإمارات والكويت وقطر والبحرين) لزيارة قاهرة نجيب محفوظ على مدى يومين، بالتزامن مع انعقاد معرض القاهرة الدولي للكتاب.
مشروع فريد للسياحة الثقافية، أسسه الحمادي تحت عنوان "باب"، للحمادي خبرة سابقة ونجاح ذاع صيته عبر مشروع "دروب" الذي طاف أنحاء متفرقة من العالم "إسبانيا" و"البرتغال"، "الأرجنتين"، "المغرب"، وغيرها، ليست رحلات كالرحلات، إنها "سياحة" بكل ما تعنيه الكلمة، و"ثقافية" بكامل حمولتها الدلالية.
على مدار يومين، 48 ساعة فقط، وهنا في القاهرة، وتنفيذا لبرنامج زيارة شديد الدقة والتنظيم والسيولة أيضا، رافقت "العين" تلك المجموعة التي لم يزد عدد أفرادها على اثني عشر فردا، يجمع بينهم، عشق فريد خالص لأدب نجيب محفوظ وللقاهرة الفاطمية، ويختلفون بعد ذلك في تخصصاتهم العلمية؛ أطباء، مهندسون، أكاديميون، صيادلة، إداريون، عمداء كليات سابقون.. إلخ، لكن يجمعهم أيضا شغف كبير بالجمع بين ما قرأوه بين دفتي الكتاب وما يشاهدونه بأعينهم ماثلا أمامهم في شموخ وكبرياء وحنو.
اليوم الأول اتخذ من شقة نجيب محفوظ القديمة بحي العجوزة نقطة انطلاق له، حوالي ساعة ونصف سيرا على الأقدام في ذات المسار الذي كان يسيره نجيب محفوظ يوميا بدءا من السادسة والنصف صباحا حتى منتصف الظهيرة، يخرج من شقته يعبر الطريق ويسير بمحاذاة كورنيش النيل "النيل أحد معشوقات نجيب محفوظ المقدسة"، يصل إلى كوبري الجلاء بالدقي يقطعه، ثم يسير بامتداد سور الأوبرا المصرية ويعبر كوبري قصر النيل التاريخي، وصولا إلى ميدان التحرير وهناك يستقر بمقهاه المفضل "علي بابا" ويشرب فنجان قهوته الصباحية.
هكذا بالضبط سارت المجموعة على "خطى نجيب محفوظ"، يصاحبهم من يقدم لهم إضاءات كاشفة وشرحا وافيا بتفاصيل تلك الرحلة، تتخللها معلومات عن نجيب ومحفوظ وسيرته وحياته، أسرته وبناته، أدبه ورواياته.. وانتقالات كالفلاشباك في السينما تتعلق بتاريخ الشوارع والميادين، كأن الجميع قد انتقل بآلة زمن خيالية إلى حياة محفوظ وحياة القاهرة طوال سنوات القرن المنصرم.
ستنتهي هذه الجولة في مقهى ريش الشهير، الكائن في شارع طلعت حرب والمطل على الميدان الأشهر، في قاهرة وسط البلد، صاحبة المقهى "مدام ميشيل" عندما تعلم أن هذه المجموعة قد جاءت خصيصا من أجل نجيب محفوظ والتعرف على مزاراته والأماكن التي اتصلت بها سيرته وأدبه، تمعن في الترحاب وتفتح لهم أبواب القبو السرية (أسفل المقهى، وهو قبو تاريخي كان يستخدم لإخفاء أبطال المقاومة الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي وطباعة المنشورات السرية)، تتركهم يتجولون بحرية في أنحاء المقهي والتقاط كل ما يرغبون فيه من صور تذكارية لمعالم المكان التاريخية.
من قلب ميدان الحسين الشهير، بين الجامعين الكبيرين "الأزهر" و"الحسين"، وفي العاشرة من صباح اليوم التالي ستبدأ الجولة الأكثر إرهاقا والأشد إمتاعا، من هنا ستنطلق هذه المجموعة الشغوفة لزيارة أهم المعالم في منطقة الحسين والجمالية؛ التي عاش فيها نجيب محفوظ في صباه وانحفرت بداخله وتجلت في أروع أعماله وأعظمها "الثلاثية"، "زقاق المدق"، "خان الخليلي".. إلخ
قاهـرة المعز، هي عشـق نجيب محفوظ الأول، فشـوارع وحارات، وأزقة وعطفات "الحسين"، و"الأزهر"، و"الجمالية" هي الأماكن التي تدور فيها الغالبية العظمى من قصصه ورواياته، وعندما سئل نجيب محفوظ ذات مرة عن لحظة الوعي الأولى أو متى بدأ وعيه بالمكان، أجاب على الفور قائلا: "منذ بدأت أعي ما حولي، فأول ما جاءني الوعي بأن هناك شيئا حولي كانت (الجمالية) أمامي".
سيرا على الأقدام وببطء مستوعب، ستسير المجموعة تجاه الشمال في شارع المعز، محاولات استيعاب أن هذه المنطقة عمرها يزيد على الألف عام والمتخمة بالمساجد والمدارس والأسبلة والبيوت الأثرية والخانقاوت.. إلخ مثلت تجربة فريدة وخاصة جدا، مع شرح الدليل المرافق، وكأن الجميع قد انتقل إلى قلب مشهد سينمائي هووليودي "لوكيشن طبيعي مائة في المائة"، صوتا وصورة وبشرا وحجرا، كل ما يحيط بهم من الجانبين يكاد ينطق.
ستستغرقهم مجموعة قلاوون ردحا من الزمن، عن ذات اليمين واليسار، المسجد المهيب بمئذنته البديعة، المدرسة والبيمارستان (المستشفى القديم)، السبيل الشهير المتاخم للمجموعة، قبلها توقفوا مليا أمام سبيل عبد الرحمن كتخدا الشهير بسبيل "بين القصرين".
كانت هذه الساحة خلاء شاسعا يفصل بين بناءين اثنين لا غير للحكام الفاطميين، القصر الشرقي الكبير والغربي الصغير الذي خصص لنساء الخليفة الفاطمي، وفيه عاشت وقتلت ست الملك، شقيقة الحاكم بأمر الله. اندثر كل ذلك وذهب إلى حيث لا نعلم، ولم يتبق إلا الأثر المحفوظ في هذه التسمية "بين القصرين" التي خلدها نجيب محفوظ في عمله الأروع "الثلاثية":
"كانت المشربية تقع أمام سبيل بين القصرين، ويلتقي تحتها شارعا النحاسين الذي ينحدر إلى الجنوب وبين القصرين الذي يصعد إلى الشمال، فبدا الطريق إلى يسارها ضيقًا ملتويًا متلفعا بظلمة تكثف في أعاليه حيث تطل نوافذ البيوت النائمة، وتخف في أسافله مما يلقي إليه من أضواء مصابيح عربات اليد وكلوبَّات المقاهي وبعض الحوانيت التي تواصل السهر حتى مطلع الفجر، وإلي يمينها التف الطريق بالظلام حيث يخلو من المقاهي، وحيث توجد المتاجر الكبيرة التي تغلق أبوابها مبكرا، فلا يلفت النظر به إلا مآذن قلاوون وبرقوق لاحت كأطياف من المرَدَة ساهرة تحت ضوء النجوم الزاهرة".
سار الجميع مبهورا محبوس الأنفاس، حتى الوصول إلى جامع الحاكم بأمر الله بشساعته المرهبة، حديث واف من الدليل المرافق عن الجامع وتاريخه وكيف تم ترميمه وتجديده، وأخيرا وصلت المجموعة إلى آخر نقطة في الشارع، "باب الفتوح"ن أحد أكبر وأشهر أبواب القاهرة التاريخية. أبواب القاهرة كانت ثمانية، بقي منها "النصر" و"الفتوح" و"زويلة" وجزء من باب "البرقية" تحت تلال الدراسة، ينفرد من بينها "باب الفتوح"، الذي يقف على خط واحد مع باب النصر، غير أن لكل منهما حضور مغاير وهيئة مختلفة.
قبل الخروج من باب الفتوح، حيث السور المحاذي لخندق الماء العميق والذي كان يحول بين المهاجمين من الخارج والوصول إلى الحائط المتين المبني من حجارة عليها نقوش فرعونية، يحكي لهم الدليل المرافق قصة "سيدي الذوق" الذي لم يخرج من مصر، والذي ضرب به المثل الشهير "الذوق لم يخرج من مصر"، ومن سيدي الذوق إلى "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني".
اتخذ طريق العودة إلى نقطة الانطلاق، بعد الخروج من باب الفتوح، السير يمينا بمحاذاة السور الشامخ، ثم الوقوف أمام باب النصر واجتيازه دخولا بمحاذاة مدخل حارة الروم الجوانية والعطوف، حيث يمتد الشارع الموزاي للمعز، شارع الجمالية وسوق الليمون والزيتون، كان كل جزء من الطريق يمرون به يهبهم شيئا جميلا، متعة خاصة، مذاقا حلوا، رؤى ممتدة حتى الوصول إلى شارع قصر الشوق، والعودة إلى ميدان بيت القاضي ومعاينة بيت القاضي، ثم عبور الدرب الأصفر رجوعا إلى شارع المعز مرة أخرى، ثم الذهاب لقضاء بعض الوقت في مقهى الفيشاوي، أحد معالم الحسين والمقهى الشهير الذي كان يلتقي فيه نجيب محفوظ أصدقاءه المقربين، وإلى هنا ستنتهي الجولة وتستعد هذه المجموعة الشغوفة لمغادرة القاهرة.
رحلة عبور "باب قاهرة نجيب محفوظ" ستظل محفورة في أذهان وقلوب من خاضها عشقا وولعا وشغفا باقيا لا يزول.