عن شخصية معرض القاهرة للكتاب2017.. ماذا بقي من شعر صلاح عبدالصبور؟
"العين" تلتقي شعراء ونقادا للحديث عما بقي من شعر صلاح عبد الصبور في ذمة التاريخ الأدبي بعد مرور ثلاثة عقود ونصف على رحيله
مثّل بزوغ نجم صلاح عبدالصبور الشعري محطة فارقة بين تاريخين متباعدين تمام الابتعاد في مسيرة الشعر العربي، بحيث أصبح دارسو تاريخ الأدب يفصلون بينهما فصلا تاما، فما قبل عبدالصبور شيء، وما بعده شيء آخر تماما.. ما قبل عبدالصبور كان الشعر العربي سائرا في فلك القواعد الخليلية التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفَّى في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، بعد أن عكف على قراءة شعر العرب ودراسة مسالك النظم وطرائقه، منتهيا باستخلاص الوحدات النغمية التي جمعها في 15 بحرا شعريا يقوم عليها النظم عند العرب، ومن ثم عني الشعراء بالتزام البحر الشعري والقافية الموحدة والوزن العروضي، وعُد الخروج عنها نوعا من الهرطقة الكلامية التي لا ينبغي الالتفات إليها.
وفي سنة 1957 اهتزت الأوساط الثقافية في مصر على صدى خروج ديوان "الناس في بلادي" للشاعر صلاح عبدالصبور إلى حيز النور، عن دار الآداب البيروتية لصاحبها الأديب والناشر سهيل إدريس، والذي نشره لعبدالصبور دون سابق معرفة، ولم يكن عمر عبدالصبور يومها تجاوز السادسة والعشرين، ليثير جدلا وصدى كبيرا لم يتوقف حتى يومنا هذا، وتوقف النقاد والشعراء ودارسو الأدب بالنقد اللاذع الهادم من جانب، وبالنقد المادح المؤكد على طزاجة شعريته وجدتها وتفردها عما سواها، ومغايرة لغته ومناسبتها للتعبير عن مستجدات الإنسان وواقع حياته المعيش من خلال استخدام عبدالصبور لمفردات الحياة اليومية الشائعة، ومزج الرؤى السياسية والاجتماعية والفلسفية في غلالة ناقدة لا تباشر بقدر ما تومئ لمواجع الإنسان وآلامه.. وبهذا الديوان تم إدراجه من ساعتها في طليعة الحركة التجديدية التي غيرت مسار الشعر العربي مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.
ستة دواوين شعرية أصدرها صلاح عبدالصبور هي على التوالي: "الناس في بلادي" 1957، "أقول لكم" 1961، "أحلام الفارس القديم" 1964، "تأملات في زمن جريح" 1970، "شجر الليل" 1973، "الإبحار في الذاكرة 1977.. مشروع شعري باذخ معطاء، فتحت بوابة العين الإخبارية تحقيقا بعنوان "بعد ثلاثة عقود ونصف على رحيله.. ماذا بقي من شعر صلاح عبدالصبور"، تحاورت فيه مع نخبة من النقاد والشعراء لسؤالهم عن أثر صلاح عبدالصبور في تاريخ الشعر العربي، وهل بقي من شعره شيء بعد أن رحل الشاعر سنة 1981..
بودلير الشعر العربي
الشاعر والمترجم الكبير رفعت سلام من أبرز شعراء السبعينيات، وصاحب مشروع في ترجمة الشعر تنوء بثقله مؤسسات، فقد ترجم الأعمال الشعرية الكاملة لأربعة شعراء، كل منهم شامة معروفة وعلامة فارقة في بلاده.. ترجم سلام لليوناني كفافيس والفرنسيين شارل بودلير وآرثر رامبو وللأمريكي والت ويتمان.. وفي جعبته ذكريات كثيرة وفيض من المواقف والأحداث الهامة التي جمعته بصلاح عبدالصبور، وفي تصريحه لبوابة العين الإخبارية قال: "إننا كلما مرَّ الزمن اكتشفنا عمق بصيرة صلاح عبدالصبور الشعرية الرائية، عمق بصيرته التي تجعل الشعر "صالحًا لكل زمان".. وذلك ما نلقاه -خارج إطار الشعراء- حين يستنجد به البعض على صفحاتهم في الفيس بوك، هذه الأيام... وتلك هي عظمة الشاعر الحقيقية، حين يخترق شعره الدائرة الضيقة للشعراء والقريبين منه إلى القارئ العام، والمثقف العام.
وهو- بالنسبة لنا- حالة أقرب إلى "شارل بودلير" الذي نقل الشعر الفرنسي إلى "الحداثة"، على صعيد رؤية العالم، ورؤية القصيدة؛ فلا أحلام بيوتوبيا ريفية، بل هو ضياع الإنسان الحديث وانسحاقه في المدينة المعاصرة؛ مع مرارة العيش وانكسار الأحلام وتحول الحياة إلى عبء باهظ لا يحتمله الإنسان الفرد العاجز.. بلا بلاغة تقليدية ولا رطانة لغوية ولا خطابة منبرية... هي الجملة الشعرية الخالصة، الصافية من الشوائب التراثية المحفوظة، العالقة دائمًا بالذاكرة.
وهو أيضا مَن نقل المسرح الشعري العربي إلى "الحداثة"، بعد عقود من التقليدية، على يد شوقي وعزيز أباظة، وخطابية عبدالرحمن الشرقاوي.. فأعماله المسرحية تتواكب مع أرقى منجزات المسرح العالمي في الستينيات، وتتصدر إبداعات المسرح العربي في آن، وهو منجز لم يمكن لأحد من التالين له-من الأجيال اللاحقة- تجاوزه، أو حتى موازاته، في نفاذ البصيرة والرؤية المسرحية.
وأحب أن أنوه لأمر آخر يتصل بثقافة عبدالصبور، وهو مقالاته المجموعة في بعض الكتب، فهي ثروة منسية، غطى عليها الشعر والمسرح لديه. هي كشف واكتشاف لآفاق بعيدة مهمشة من الآداب العالمية، صدًى لتأمله العميق في تجارب الشعراء والمبدعين في ثقافات العالم المختلفة.. إضاءات لافتة لرؤى ونظرات فارقة هنا وهناك، ووعي حديث- بلا مرجعية- بحضور الإنسان الراهن في هذا العالم، وفاعليته فيه.
ثراء
تحدثت "العين" مع الناقد الدكتور يسري عبدالغني لمساءلته حول شعر عبدالصبور ومدى أهميته، ليؤكد على الرؤية التي انحاز إليها الشاعر رفعت سلام.. حيث قال عبدالغني: "على قدر ما نقترب من العالم الإبداعي لصلاح عبدالصبور على قدر ما نشعر بثراء معطيات هذا العالم، في نفس الوقت الذي نشعر فيه بغزارة مشاعره وأفكاره وأحاسيسه، حتى نظن في بعض الأحيان أننا نكاد نضيع في زخمه المتلاطم في آونة قصيرة.. لقد ارتبط صلاح عبد الصبور ارتباطاً وثيقاً بحركة الشعر العالمي المعاصر، وارتبط أكثر بشعراء من العالم الثالث في فترة من أكثر فترات التاريخ المعاصر اضطراما بالحركات التحررية والثورة.. عرف لوركا وبابلو نيرودا وإيفتو شينكو، كما عرف إليوت ووايتمان، ونشأت بينه وبينهم روابط فكرية وثقافية بلورتها طبيعة المتغيرات التاريخية العالمية وطبيعة المتغيرات العربية، مع مراعاة أن صلاح عبد الصبور ولد سنة 1931م ، وقد تكون وجدانياً وفكرياً وثقافياً خلال فترة المد الثوري في مصر والعالم العربي والعالم الثالث في أفريقيا وأسيا وأمريكا الجنوبية، ومن هنا أطالب كل من يكتب عنه بضرورة الالتزام بهذه الحقيقة المهمة.
ولعل صلاح عبد الصبور كان أكثر شعراء مصر حساسية تجاه المتغير الثقافي العلمي، ومن هنا جاءت قيمته التي تفرد بها بين شعراء عصرنا، يدلنا على هذا وجهته الثقافية في الآداب الغربية وطبيعة اختياراته لما يقرأ، وطبيعة ملاحظاته الفكرية في رحلاته وسياحاته المختلفة شرقاً وغرباً من الهند حتى الولايات المتحدة. وإذا كان شاعرنا أحد رواد مدرسة الشعر الجديد أو شعر التفعيلة، فإنه ينفرد بسمات خاصة، قربت المسافة بينه وبين الإحساس بين المتغير الثقافي العالمي، وعليه كان عبد الصبور أكثر إدراكاً وأكثر وعياً وأكثر تجاوباً مع جوانب خاصة من الشعر العالمي مثلت في مجملها حالات من القتامة والإحساس بالتضاؤل والضياع والغربة.. وفي رأينا المتواضع أن أهم عنصر يميز شعر هذه المدرسة، أنها نفضت يدها من معان كثر ترددها دون معنى، فإذا كان التراث يحتوي في مضمونه على عدد كبير من الأفكار، نحبها ونعجب بها ونستسيغها، فإن هذا ينبع من مناسبتها لعصرها وأجيالها الفائتة.
طائر أسطوري
الشاعر والمسرحي والناقد أحمد سراج صرح ل"بوابة العين الإخبارية" عن انزعاجه الشديد لإهمال القائمين على أمور الثقافية للقامات الثقافية الكبيرة أمثال صلاح عبدالصبور، متمنيا في الآن ذاته أن يكون الوقت قد أزف لتدارك الإهمال والتسيب الحاصل بحق عبدالصبور.. حيث قال أحمد سراج: "عبد الصبور شاعر ومترجم وناقد، لكن الشعر ظل لديه أولاً؛ وظل قراؤه ودارسوه ينظرون إليه باعتباره شاعرًا، وإنه من اللافت أن نجد شاعرًا حوَّل كل شيء لخدمة شعره، ومن اللافت أن نجد في كل شيء كتبه أثر الشعر، حتى مسرحه أفاد من شعره، ما من قصيدة إلا ولها أثر.
ثمة عناية في بناء نص عبد الصبور، رؤية عالم واضحة في كل تفصيلة، في كل قصيدة تجد جديدًا ما، وحين تقرأ داوينه تجد ما هو أعمق من الخيوط الرابطة.. كأنك أمام جسد حي، لا فرق بين غضبة "الناس في بلادي" و ذلك الصوت القائل في ألم: "أخرج من مدينتي| من موطني القديم| مطرحا أثقال عيشي الأليم| فيها وتحت الثوب سري| دفنتها ببابها| ثم اشتملت بالسماء والنجوم" المغامر العنيد نفسه الذي يريد لقارئه ألا يكون نديما: "إن قلت للصاحي انتشيت| قال كيف؟"
هو القارئ الموسوعي الذي يُسخِّرُ كل ما يحصل عليه من أجل الشعر، كطائر أسطوري يلم من أقطار الأرض، أربعة كانت أو بلا حصر، ثم يصهرها في عناية ودأب لتكون كما نرى جوهرة "سيدة الجوهر" لا تسقط بين حذاء الجند أو اللحى.
سأذكر تكراره لقول شيللي: "بي شهوة لإصلاح ما في الكون من الخطأ" وسأتبع ما يقول في مأساة الحلاج مضفيا على الحدث اللاهب الموار أبعادًا تنتصر للإنسان في أي مكان وزمان.
سيبقى شعر عبدالصبور لدى من يبحث عنه وفيه، وهنا تكمن المشكلة؛ فأعمال الرجل غير متاحة بشكل فعلي، ولا يمكن الوصول إليها بشكل ميسور، إلا عن طريق المكتبات أو نسخ ضوئية مسروقة، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل أهملت أمة شعراءها وكتابها كما نفعل نحن؟ هل يمكن أن نجد قصائد عبدالصبور، ومسرحياته، ودراساته، وترجماته بالشكل الذي نجد به دراسات إليوت على الإنترنت؟ هل يمكن أن يحصل قارئ الآن على الأعمال الكاملة له؟
علامة شعرية مميزة في شعرنا الإنساني أهملناها وأهملنا منجزها.. ياللحسرة.
لكن ولأن الأوان لم يفت دائمًا، فأنا أدعو إلى توفير محتوى عبدالصبور إلكترونيًّا لكل القراء
المشهد الشعري
الشاعر فتحي عبدالسميع -الحاصل مؤخرا على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عن كتابه "القربان البديل"- له وجهة نظر مخالفة لما ارتآه رفعت سلام ويسري عبدالغني وأحمد سراج.. حيث قرّر في كلمته لبوابة العين أن صلاح عبدالصبور رائد كبير مهد الطريق لكثير من الأجيال اللاحقة وفصل بين مرحلتين في تاريخ الدرس الأدبي، ولكن عند تقييمه كشاعر فالأمر لديه يتطلب كثيرا من الصبر والتأني قبل إصدار الأحكام القاطعة.. وعندما سألناه أجاب قائلا:
"هناك قسم من شعر صلاح عبد الصبور يحمل قيمة تاريخية فقط، وهناك قسم مازال مثيرا جديرا بالبقاء، فقيمة عبدالصبور كرائد تظل باقية، لكن النصوص التي تفتح بابا أو طريقا لا تظل بالضرورة مؤثرةً في الأجيال القادمة، ويمكن أن ينتهي دورها في مجرد فتح الطريق، وهناك عدد كبير من نصوص الشعراء الرواد الذين نقلوا القصيدة من الشكل القديم إلى قصيدة التفعيلة لا يستحق البقاء كشعر جميل، ولا يؤثر في الشعراء الجدد، ويمكن تجاهله دون خسارة، لأن تلك القصائد لعبت دورا تاريخيا وغادرت المسرح.
وعندما نتحدث عن القصائد التي تبقى، لا يمكنني فصل تجربة عبد الصبور عن المشهد الشعري خلال نصف القرن الأخير، فمنذ العصر الجاهلي لم يعرف الشعر فترة تشبه تلك الفترة، من حيث الحركة الدائمة، والتطورات المتلاحقة، والتغيرات العنيفة، والتيارات المختلفة. وهكذا يصبح البقاء رغم تلك الموجات الثورية صعبا إن لم يكن مستحيلا، خاصة في ظل مناخ عام قلق جدا، وممتلئ بالتحولات العنيفة.
ومنذ رحيل عبد الصبور ظهرت أصوات كثيرة تتجاوزه فنيا، وهذا طبيعي وضروري، فإذا اعتبرنا الصورة الشعرية الفريدة والمدهشة معيارا، فهناك شعراء تجاوزوه من حيث القدرة على نسج تلك الصور، والأمر ينطبق على أمور أخرى، قد نعتبرها معيارا لتقييم منجز شاعر ما، مثل البناء ، أو المغامرة، أو الثورة على السائد، أو فتح طرق جديدة، وغيرها.
ورغم ذلك التحولات العاصفة في المشهد الشعري، إلا إننا نجد قسما من شعر عبدالصبور يمتلك مقومات البقاء، وينجح في عبور تلك العقود دون أن يفقد بريقه، لا لأنه يعتمد على مهارات فنية فقط، بل لأنه يعبر أيضا عن امتلاك الشاعر لطابع إنساني، وروح شفافة، وتجربة صادقة ملتصقة بمحيطها وثقافته، والتحام جاد بالجوهر العميق للشعر.