بعد ثلاثة عقود ونصف على رحيله.. ماذا بقي من مسرح صلاح عبدالصبور؟
"العين" تتحدث إلى نقاد وشعراء مسرحيين للحديث حول مآثر مسرح صلاح عبدالصبور.. شخصية معرض القاهرة للكتاب هذا العام.. ماذا قالوا؟
"مأساة الحلاج"، "مسافر ليل"، "الأميرة تنتظر"، "ليلى والمجنون"، و"بعد أن يموت الملك".. خمسة أعمال مسرحية هي منجز المسرحي الكبير صلاح عبدالصبور على التوالي خلال الأعوام 1964 و1973، استطاع عبرها تحريك مياه المسرح العربي الراكدة، وأضاف جديدا بملاءمته بين كافة جوانب التكنيكات المسرحية، والمزاوجة بين البناء الفني للعمل ولغته الغنائية والموقف الدرامي، في ملاءمة وقسمة عادلة لا خلل فيها لجانب على حساب الآخر، وفي مغايرة تامة لحركة المسرح العالمي السائدة يومها من التزام بالقواعد الكلاسيكية الصارمة، وهو ما أثار النقاد والباحثين نحو إبراز تجليات مسرح عبدالصبور الفنية وتساؤلاته الفنية المشروعة التي يطرحها من خلال أعماله..
وفي ظل اختيار الهيئة المصرية العامة للكتاب لصلاح عبدالصبور كشخصية للمعرض في دورته الثامنة والأربعين، وإعدادها لطبعة جديدة من مسرحياته التي أشرف عليها الشاعر والمترجم القدير أسامة جاد، التقت "بوابة العين الإخبارية" بنخبة من نقاد المسرح والشعراء المسرحيين للإجابة على التساؤل في شهادتهم للتاريخ
ظلال لصلاح عبد الصبور
الدكتور أسامة أبو طالب، الناقد المسرحي وأستاذ الدراما والمسرح بالمعهد العالي للفنون المسرحية، والرئيس السابق للبيت الفني للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، وقف على تطورات المسرح الشعري منذ التأسيس الحقيقي له على يد أحمد شوقي، ثم عزيز أباظة، ومرورا بعلي أحمد باكثير وعبدالرحمن الشرقاوي، وانتهاء بصلاح عبدالصبور "درة العقد" على حد تعبيره.. مؤكدا على أنه درس عبدالصبور في رسالته للماجستير وامتد به الوقوف أمام منجزه بحكم تخصصه، ومن ثم فهو يحكم بعين الخبير المدقق لا بعين الهاوي المحترف للنقد كحرفة، وقال لـ"العين": "أود بداية أن أنبه لفارق هام في التأسيس النقدي؛ ما يقوم به ناقد المسرح يختلف تماما عما يقوم به ناقد الأدب، فدراسة النقد المسرحي هي دراسة كلية علوم المسرح، ومن ثَمَّ فأنا لا أستسيغ تلك الدراسات التي يقوم عليها نقاد أدب بضاعتهم هزيلة من علوم المسرح، وبوصفي ناقدا مسرحيا عكفت على منجز عبدالصبور في المسرح، وقدمت رسالتي للماجستير عنه؛ كانت رؤيتي لدوره التاريخي في نهضة المسرح العربي كما يلي:
التأسيس للمسرح الشعري كان على يد أحمد شوقي الذي تأسَّى حركة المسرح العالمي القوية آنذاك، ولاسيما موليير وكورني، وساعدته ثقافته الفرنسية على أن يكتب المسرح الشعري على النمط الكلاسيكي الملتزم لغويا وشعريا، ومسرحه متماسك لغويا ولكن ينقصه الكثير من تقنيات الفن المسرحي ومتطلبات الموقف الدرامي ونمو الحدث ورسم الشخصية، وتبعه عزيز أباظة على الدرب ذاته وقدم مسرحيات متماسكة قواعديا لكنه لم يخطُ بالمسرح أي خطوات أخرى.
النقلة الجبارة في المسرح الشعري كانت على يد علي أحمد باكثير، الذي هُضم حقه وانزوت عنه الدراسات النقدية، غافلة دوره كجسرٍ هام بين المسرح التقليدي ومسرحية الشعر الحديث.
يضيف أبو طالب"صلاح عبدالصبور كان هو الفاتح لهذا الفن باعتماده قصيدة التفعيلة الجديدة، محطما أغلال الشعر التقليدي الموزون، بغية الوفاء بمتطلبات الدراما، وتجاوز بمنجزه كلاسيكية كورني وموليير، وبشرت القصيدة الغنائية عنده بدراما من نوع جديد، ونمت شاعريته الكبرى بالواقع الدرامي عنده، على عكس شوقي الذي طغت غنائيته على الدراما، وساعد عبدالصبور على ذلك عقله القادر على تطوير الحدث الدرامي، والذي قدم في الآن ذاته غنائية مدهشة وفارقة على الصعيد الفني، ومن وجهة نظري فإن مسرح صلاح عبدالصبور يتجاوز بكثير مسرح عبدالرحمن الشرقاوي الذي طغت دراميته على غنائيته، على عكس عبدالصبور الذي نجح في المزاوجة بيسر وبساطة لم تخلّ بجانب منهما على حساب الآخر، والذين يرون أن عبدالصبور لم يقدم جديدا للمسرح مصابون بالعمى النقدي، فلو لم يكتب غير "مأساة الحلاج" لكفاه ذلك".
وأخيرا يقول أبوطالب "أقول بكل اطمئنان إن كل شعراء المسرح خرجوا من نهر صلاح عبدالصبور، الذي لا تزال مياهه عالقة بثيابهم.. كلهم لم يستطيعوا أن يتجاوزوا دائرة إبداعه، وكل شعراء المسرح في العالم العربي ظلال له".
فتنة وغواية
وإذا كان كل الشعراء قد غرفوا من مياه صلاح عبدالصبور كما يقول الدكتور أسامة أبو طالب؛ فإن الشاعر والمسرحي فريد أبو سعده يؤكد الأمر ذاته في اعتراف صريح وجريء يصعب على الكثيرين البوح به هكذا بكل سهولة ويسر.. مؤكدا على أن عبدالصبور فتنة وغواية لكل الشعراء من بعده.. أبو سعده -الذي يعتبر واحدا من أبرز شعراء جيل السبعينيات، وممن ارتبط بعلاقة صداقة خاصة بالشاعر صلاح عبدالصبور، وكانت بينهما مساجلات فنية وإنسانية- يصرح في حديثه ل"بوابة العين الإخبارية" قائلا "أنا واحد من تلاميذ مدرسة صلاح عبدالصبور.. الآن فقط، وقد كتبت المسرح، وخاصة "ليلة السهروردي الأخيرة" كتبتها بالسحر الذي ظل فيَّ لأكثر من ثلاثين عاما منذ رأيت "مأساة الحلاج"، الآن فقط يمكنني الادعاء بأنني من تلاميذ هذا الرائد المصري العظيم، ترى لماذا فتنني صلاح؟! هل لأن في إبداعه الشعري حوار ثلاثي، بين ذات الشاعر الناظرة، وذاته المنظور إليها، وبينهما وبين الأشياء في العالم؟ هل لأنه في التشكيل يربط الشعر بالرقص والموسيقى والفلسفة؟ هل لأن لغته لغة الحياة، وذات نكهة مصرية، غنائية ودرامية، كثيفة وعميقة في آن؟ لغة تجمع بين البساطة المفخخة والسهولة الملتبسة؟! أم هو كل هذا معا في سبيكة نادرة؟!
ولأن الدراما هي القاعدة الأولى لبناء القصيدة الحديثة، انطلق إلى عالم المسرح الشعري، فمأساة الحلاج لا تنغلق على ذاتها باعتبارها نقيضاً فنياً للواقع المعيش، بل وجودًا موازيًا لهذا الواقع ومتفاعلا معه، ليدرك المشاهد الخلل الحادث في الواقع، وقد نجح في خداع نقاده حين أحال مسرحيته «مسافر ليل» على تأثره بمسرح العبث، إذ أن صلاح عبد الصبور استخدم ما أسماه بريخت «بالإيماءة» لصنع عالم تغريبي، ليدلل على استمرارية السلطة المستبدة وخلودها..كان عذاب الحلاّج طرحا لعذاب المفكرين وحيرتهم بين السّيف والكلمة.. يقول صلاح معلّقا على هذه المسرحية: "أمّا القضية الّتي نطرحها فقد كانت خلاصي الشّخصي، فقد كنت أعاني حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا.. وكنت أسأل نفسي السؤال الّذي سأله الحلاّج لنفسه ماذا أفعل؟ وكانت إجابة الحلاّج هي أن يتكلم ويموت.. فليس عندي الحلاّج صوفيا فحسب، ولكنه شاعر أيضا والتّجربة الصّوفية والفنّية تنبعان من منبع واحد".
مأساة الحلاج
المسرحي والناقد محمد عبدالحافظ ناصف ثمَّن قرار الهيئة العامة للكتاب هذا العام باختيار عبدالصبور شخصية للمعرض، حيث يؤكد على رمزية الاختيار ومعناه الذي يصب في خدمة الثقافة العربية من خلال تكريم المبدعين والشعراء والأدباء، مؤكدا على أن عبدالصبور واحدٌ من أهم الوجوه التي عبرت في تاريخ المسرح العربي، حيث لم يتعرف ناصف عليه التعرف الكافي إلا بعد أن التحم بأدبه ودرس منجزه المسرحي فتأكدت لديه قدرات عبدالصبور الشعرية والدرامي، حيث يرى أنه "أضاف للأدب العربي جديدا على مستوى الشكل والمضمون ، ففي الشعر لا أحد ينسى تصديه للوقوف في وجه العملاق العقاد حين بدأ كتابة شعر التفعيلة الذى يعطى للشاعر مزيدا من المرونة في التعبير عما يجيش في صدره دون أن تعوقه قافية لا تعبر عن اللحظة المناسبة، كما أنه تناول موضوعات لم يتم تناولها من قبل في الشعر المصري، وبالرغم من ذلك وهذا الإنجاز الكبير والضخم لم يفتنني صلاح عبد الصبور كشاعر، وللناس فيما يعشقون مذاهب ولكنه أدهشني ككاتب مسرحي من طراز فريد.. كتب عددا من المسرحيات الشعرية المفارقة والتي أعتبرها النموذج الفريد للمسرح الشعري شكلا ومضمونا، فقد عرفت قيمته الحقيقية حين درسته بجد كي أعرف تجربة المهمة، أدهشتني مسرحيته النموذج "مأساة الحلاج" كثيرا، و كيف أعطى الكثير من الإشارات المهمة لقارئه ومشاهده في علاقة المثقف بالسلطة، وكيف أن السلطة تتخلص منه حين تشعر بخطره بعد أن تتحسس رأسها، أعتبر نصوصه المسرحية الخمسة نماذج مهمة واعدة وأدوات يجب قراءتها قبل أن يشرع كاتب المسرح الشعرى في كتابة أية مسرحية جديدة له".
مشروع إعادة طبع مسرحياته
الشاعر والمترجم أسامة جاد الذي أشرف على مراجعة وتحرير الطبعة الجديدة من مسرحيات صلاح عبدالصبور الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، كان له حديث مطول مع "بوابة العين الإخبارية" تحدث خلاله عن الصعوبات التي واجهتهم عند تنفيذ مشروع إعادة طبع مسرحيات صلاح عبد الصبور، وقيامه بتنقيح الطبعات المختلفة ثم المقارنة بينها، مع الأخذ في الاعتبار عوامل ضبط اللغة وضبط الوزن الشعري وضبط الشخصيات والحركة المسرحية، حتى يكون الإخراج الفني في النهاية مبسطا على القارئ وخادما للمعنى الذي أراده عبدالصبور نفسه، وبسؤاله عن مسرح صلاح عبدالصبور وهل يصمد اليوم أمام التغيرات المسرحية الزاحفة والقاذفة إلينا بكل جديد، بل وبسؤال عما يتبقى من شعر عبدالصبور نفسه ومدى فاعليته الآنيّة قال "يعرف عن صلاح عبد الصبور اهتمامه المكرس للمسرح الشعري، الذي يعد واحدا من أهم رموزه في المشهد العربي الحديث. خاصة وأنه ظل دائما يتبنى موقفا يرى أن المسرح نشأ شعريًّا.. وأنه في أغلب الظن سيعود كذلك، رغم غلبة الطابع الاجتماعي النثري منذ أواخر القرن التاسع عشر".
وجاء في تذييل مسرحيته الثانية "مسافر ليل" رد على سؤال: لماذا الشعر؟ بقوله: "الشعر لأن المسرحية ظلت تكتب شعراً عمرها كله، فيما عدا القرن الأخير، ولأنها تحاول أن تعود في سنواتنا الأخيرة إلى النبع الذي انحدرت منه، وقد أسعفها على العودة ذلك التغير فِي مفهوم كلمة الشعر، إذ لم تعد كلمة مرادفة للنظم، بل أصبح بين الشعر والنَظم مباينة أعمق من المباينة بين الشعر والنثر، فالخلاف بين الشعر والنثر خلاف شكلي، أما الخلاف بين الشعر والنَظم فهو خلاف فِي الرؤيا والاقتراب والتحقيق".
غير أن عبد الصبور يطرح تصورا للشعر المسرحي يغاير الشعر في مطلقه بدرجة ما، لخصه قوله في تذييل "مسافر ليل": "إنني أريد أن أسبغ حالة شعرية على مسرحيتي لا أن أكتب شعراً يستطيع أن يقف على الخشبة".
وحسب جاد فإن صلاح عبد الصبور قد اهتم بالمسرح الحديث والكلاسيكي على حد سواء، مستفيدا من فكرة الجوقة والراوي الكلاسيكية في مسرحتيه "الأميرة تنتظر" و"بعد أن يموت الملك" فيما جسدت مسرحيته "مسافر ليل" واحدا من أبرز نصوص التجريب المسرحي المستفيد من مسرح العبث الحديث، بعد أن شاهد عرضا لإحدى مسرحيات أوجين يونسكو.
كما اهتم بقضايا الإخراج وتنفيذ العرض المسرحي، سواء في توجيه الممثلين في الحركة والأداء، وملاحظاته اللماحة في استخدام الإضاءة وفضاء الخشبة المسرحية، بل قال في صراحة: نحن الشعراء الذين نكتب للمسرح – قد أهملنا تقليداً جليلًا، وهو أن نكون كتابا ومسرحيين فِي ذات الوقت كما كان أسلافنا منذ إسخيلوس حَتَّى شكسبير، وقد نتج عن تراخينا فِي أداء واجبنا أن دخل إلى المسرح، ووقف بيننا وبين النص عديد من الوسطاء، أهمهم المخرج.
"وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود ونصف على وفاة صلاح عبد الصبور إلا أنه ما زال واحدا من أهم الرموز الشعرية والمسرحية في مصر والعالم العربي، ولا أكون مبالغا إذا قلت إن تجربته في المسرح الشعري لم يتم تجاوزها إلى الآن" يقولها الشاعر أسامة جاد.