جمهورية الصين الشعبية تحتفل هذا الأسبوع بالذكرى السبعين لانتصار ثورتها في 1 أكتوبر 1949.
تحتفل جمهورية الصين الشعبية هذا الأسبوع بالذكرى السبعين لانتصار ثورتها في 1 أكتوبر 1949، وعلى مدى تلك السنوات استطاعت الصين أن تنتقل من دولة زراعية متخلفة إلى اقتصاد صناعي ناهض، وهو أكبر اقتصاد مشارك في التجارة الدولية ويزاحم الولايات المتحدة على قمة الاقتصاد العالمي، وتُعد الصين من الدول الرائدة علميًا وتكنولوجيًا في بحوث المُستقبل كالذكاء الاصطناعي والأنشطة السيبرانية. وأدى هذا التقدم إلى تغيير موازين القوة على مستوى العالم، ودفع بكثير من الباحثين إلى وصف القرن الحادي والعشرين بأنه "القرن الصيني".
في هذا الإطار، هناك العديد من العوامل التي تربط بين الصين والعرب، يربط بينهما النفط وقناة السويس والممرات البحرية الأخرى، فالصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم، ويمثل النفط والغاز العربي نحو 25% من مصادر الطاقة التي تعتمد عليها.
ومن هذه العوامل نمو شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والتجارية، فعلى مستوى العلاقات التجارية، تمثل الدول العربية الشريك التجاري السادس للصين، وتزداد التبادلات التجارية بشكل متسارع بين الطرفين، فأصبحت الصين الشريك التجاري الأول لعدد 10 دول عربية في 2018. ورافق ذلك ازدياد الاستثمارات الصينية في الدول العربية وتلك السعودية والإماراتية في الصين، ونتج عن تطور هذه العلاقات، ازدياد خطوط الطيران التي تربط بين الطرفين، والتي وصلت إلى أكثر من مائتي رحلة جوية شهرية، أي بمعدل 6 طائرات يوميا، تحمل ما يزيد على مليون مسافر سنويًا لأغراض الاستثمار والسياحة.
ومنها المصالح المتبادلة في إطار استراتيجية "الحزام والطريق" التي تتبناها الصين وتطرحها كأساس لعلاقاتها مع العالم، تهدف هذه الاستراتيجية إلى تنمية البنية التحتية للنقل والاتصال، وتعزيز الشراكات والمصالح المشتركة مع الدول الأخرى، بحرياً من خلال إقامة وتطوير الموانئ لتسهيل حركة التجارة, وبريًا من خلال شبكة من الطرق والسكك الحديدية, وتقنيًا من خلال إنشاء خطوط الإنترنت والاتصالات الإلكترونية.
تنظر القيادة الصينية إلى الدول العربية بتقدير وحرص على التعاون معها، وتكفي الإشارة إلى قول الرئيس بينج إن "الصين والبلاد العربية تشغلان سدس مساحة العالم وربع عدد سكانه"، وذلك في سياق تأكيده أهمية المصالح المتبادلة بين الطرفين، والخلاصة أن التعاون العربي الصيني هو رهان أكيد لمستقبل أفضل للعرب.
تمثل هذه الاستراتيجية الفهم الصيني للعولمة الذي يقوم على الحوار والتعاون وتنمية المصالح المتبادلة والفوز المشترك، واهتمت الصين بطرح تصورها للمستقبل على جميع دول العالم داعية إياها المشاركة لبناء "مجتمع مستقل مشترك للعالم" كما جاء في قرار لمجلس الأمن بشأن استراتيجية "الحزام والطريق"، والذي صدر بإجماع أعضاء المجلس الخمسة عشر.
وعلى مستوى التاريخ القديم، يربط بين الصين والمنطقة العربية أن كليهما أصحاب حضارات زاهرة قديمة، ففي الصين نشأت "مملكة السماء" التي حققت شأناً بالغاً في كل مجالات التقدم، وعلى الطرف العربي نهضت الحضارات الفرعونية والفينيقية والآشورية وقرطاجة والديلمون. وعلى مدى ألفي عام، ربط طريق الحرير بين الصين والمنطقة العربية.
وعلى المستوى السياسي، يجمع بين الطرفين احترام مفهوم الدولة الوطنية، ورفض التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، واستقلالية القرار الوطني لكل دولة واحترام حق كل شعب في اختيار شكل نظام حكمه، وأن يكون نموذج التنمية الذي تأخذ به كل دولة نابعا من ثقافتها وظروفها الخاصة بها. فلا يوجد نموذج واحد للتطور يمكن فرضه على كل الدول والمجتمعات. ويعبر الرئيس الصيني تشي جينبينغ عن هذا المعنى ببلاغة وبساطة منقطعتي النظير عندما يقول إنه "لا يوجد دواء يشفي كل الأمراض، ولا يوجد نموذج للتنمية يناسب كل المجتمعات والثقافات، ولا يوجد أحد يعرف الحل المناسب أكثر من شعب كل بلد". ودلالة ذلك أن الصين تتبع سياسة واقعية تقوم على المصالح المتبادلة دونما نظر للاعتبارات الأيديولوجية والاختلاف في أشكال نظم الحكم.
وأبرز خطاب الرئيس الصيني الذي ألقاه بجامعة الدول العربية وذلك في 21 يناير 2016 العمق الاستراتيجي لنظرة الصين لعلاقاتها بالدول العربية، وإلى تطلعها لبناء شراكة شاملة معها، ومتعددة الأبعاد، وطويلة الأجل لبناء نظام عالمي جديد.
وفي هذا الخطاب، أكد الرئيس المبادئ الأساسية الحاكمة لسياسة بلاده الخارجية، وهي: تبني الحوار والتفاوض سبيلاً لحل الخلافات بين الدول، والعمل المشترك من أجل تحقيق التنمية، واحترام الخصوصيات الوطنية لكل شعب، والانفتاح على الغير الذي يقوم على المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة.
واتصالا بذلك، يؤكد الخطاب السياسي الصيني أن النظام الدولي القائم يتسم بعدم العدالة؛ لأنه يسمح للدول الكبرى بممارسة الضغوط والهيمنة وسياسات القوة على الدول الصغيرة، وأنه لا بد من إعادة النظر في أوضاع هذا النظام بحيث يكون أكثر عدالة وأكثر مساواة وأكثر تناسقا بين الدول؛ لذلك رفضت الصين تدخل الولايات المتحدة والدول الغربية في شؤونها الداخلية، وفي شؤون الدول الأخرى بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان، كما رفضت السياسات التي اتبعتها هذه الدول تحت اسم "نشر الديمقراطية".
ورغم التزامها بهذا الهدف، فقد حرصت الصين على تحاشي أسلوب المواجهة والصراع، واعتبرت أن سياسات الصراع لم تعد ملائمة في ظل ظروف الترابط وتداخل المصالح في الوقت الحالي، وأنها لم تعد مجدية للحفاظ على المصالح الوطنية للدول، وسعت إلى تحقيق أهدافها من خلال التعاون مع كل دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، وتحقيق الأمن الدولي من خلال بناء التحالفات وإقامة الشراكات والتوازنات. وبالتوازي مع هذا الأسلوب، سعت أيضاً إلى إنشاء منظمات دولية بديلة كما حدث في إقامة مجموعة دول البريكس التي تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وإنشاء البنك الآسيوي للتنمية ودعم البنية التحتية، والذي شاركت فيه سبع دول عربية كأعضاء مؤسسين.
وفي هذا السياق، يتحفظ الصينيون على استخدام تعبير "الربيع العربي" للإشارة إلى الانتفاضات الشعبية التي شهدتها بعض دول المنطقة العربية من نهاية 2010، وأفصحت مناقشاتهم في اجتماعات منتدى التعاون الصيني العربي عن اعتبارهم هذا المفهوم تعبيراً سياسياً مفعماً بالإيحاءات، وأنه أدى في الممارسة إلى عدم استقرار الدول والمجتمعات العربية، وإلى ازدياد انكشافها أمام مختلف صور الاختراق الخارجي، وأن أنصار هذا التعبير الغربي النشأة سعوا لفرض نموذج غربي على البلاد العربية، وهو ما لا توافق عليه الصين من حيث المبدأ. أما النموذج الذي تؤيده، فهو الدولة القوية التي تقوم بدور مهم في تحقيق التنمية ورفع مستوى معيشة مواطنيها، وأن ينبثق تطورها من داخلها.
وإدراكًا منها بهذه الترابطات مع البلاد العربية، ازداد اهتمام الصين بالقضايا السياسية والأمنية في المنطقة العربية والشرق الأوسط وخصوصا انتشار الأفكار المتطرفة وأنشطة التنظيمات الإرهابية العابرة لحدود الدول، فشاركت في عملية تدمير السلاح الكيماوي السوري، ورافقت إحدى سفنها الحربية ما تم تجميعه وراقبت تدميره في أعالي البحر، وكان لها مبادراتها الدبلوماسية بشأن عدد من القضايا العربية، كالحرب الأهلية في دارفور بالسودان، والحرب الممتدة في سوريا، والقضية الفلسطينية فأكدت مبدأ حل الدولتين ومبادرة السلام العربية، وإخراج محادثات السلام بين فلسطين وإسرائيل من الطريق المسدود بأسرع ما يمكن.
وكان من شأن ذلك ازدياد تبادل الزيارات الرسمية على أعلى المستويات بين الصين والدول العربية والتي شملت رؤساء الدول ووزراء الخارجية والاقتصاد والمالية والممثل الخارجي للصين في المنطقة، وكذلك تبادل الزيارات على مستوى المجالس التشريعية والنقابات والجامعات. وأنشأت الصين عديدا من معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة والثقافة الصينية في الدول العربية، ووقعت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع ست دول عربية.
ونشأت أطر جماعية للتواصل بين الطرفين، فتأسس في بكين عام 2004 منتدى التعاون الصيني–العربي الذي توجه فيه الدول العربية وإلى الأمين العام للجامعة العربية وينعقد بالتناوب بين الصين وإحدى الدول العربية ليكون منصة للحوار والبحث في صيغ التعاون بين الطرفين وبرامجه، وفي عام 2010 بدأت الصين حوارا استراتيجيا مع مجلس التعاون الخليجي.
وحظت اجتماعات المنتدى الصيني العربي بتقدير الحكومة الصينية ويقوم رئيس الدولة بافتتاحه دورات انعقاده في الصين كما حدث في الاجتماع الوزاري السادس للمنتدى عام 2014، وإلقاء الرئيس بينج خطابا أمامه. وتحدث مرة أخرى أمام الاجتماع الوزاري الثامن في عام 2018، والذي أشار فيه إلى أن الصين والدول العربية اتفقتا على إقامة "شراكة صينية عربية استراتيجية موجهة نحو بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للصين والدول العربية وكذلك للبشرية والتنمية المشتركة". وأن التعاون بين الطرفين في المشروعات المرتبطة باستراتيجية الحزام والطريق قد "بعث النشاط في كل أبعاد العلاقات الصينية العربية، ودفع التعاون الصيني العربي الشامل إلى مرحلة جديدة". وأضاف أن الطرفين بحاجة إلى تعزيز الثقة الاستراتيجية, والالتزام بالحوار والتشاور, وتدعيم مبدأ السيادة, والعمل معًا لمكافحة الإرهاب.
وحسب تصريحات القيادة الصينية، فإن الصين تدعم الدول العربية على المضي قدماً في الطرق التي تختارها لنفسها وتدعم حقها في اختيار هذه الطرق، وتساعدها على حل قضاياها الساخنة بواسطة الحوار والتفاوض، وتشجع التعاون معها لتحقيق المصالح المشتركة وتبادل المنافع.
تنظر القيادة الصينية إلى الدول العربية بتقدير وحرص على التعاون معها، ويكفي الإشارة إلى قول الرئيس بينج إن "الصين والبلاد العربية تشغلان سدس مساحة العالم وربع عدد سكانه"، وذلك في سياق تأكيده أهمية المصالح المتبادلة بين الطرفين، والخلاصة أن التعاون العربي الصيني هو رهان أكيد لمستقبل أفضل للعرب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة