على مدار الاثنين والثلاثاء الماضيين، شهد بيت جامعة الدول العربية، على ضفاف نيل مصر الخالد، مؤتمرا عالي القدر رفيع المقام.
لا من حيث نوعية الضيوف الكرام فحسب، بل انطلاقا من هدف اللقاء، والذي تم بالتعاون مع المجلس العالمي للتسامح والسلام، حيث الأيادي الإماراتية، وسمات البحث عن السلام والتسامح، والسعي في طريق التنمية المستدامة، ديدن هذا البلد من زمن "زايد الخير"، طيّب الله ثراه.
عنوان المؤتمر يعكس الهدف منه، "مؤتمر التسامح والسلام والتنمية المستدامة"، وما أجملها من قيم في زمن صعب، حيث ثقافة الكراهية تتصاعد، وفيوض المحبة تتراجع من أسف شديد.
تبقى جامعة الدول العربية، وكما أشار معالي أمينها العام السيد أحمد أبو الغيط، جامعةً لكل العرب، وموحدة وشاملة لأطيافهم، بغض النظر عن دينهم أو نسبهم أو لون بشرتهم، وتاريخ الجامعة حاضر منذ عقود طوال.. فيما المجلس العالمي للتسامح والسلام رؤية إماراتية خلاقة، ضمن خطوط وخيوط دولة تسعى لبناء عالم أكثر تسامحا وأمنا، كمنظمة دولية تعتمد على مبادئ ديمقراطية وتستمد من القانون الدولي والاتفاقات نظام عملها، فيما أهدافها تتمحور حول نشر ثقافة السلام كقوة تغيير على المسرح العالمي.
ويسعى المجلس العالمي للتسامح والسلام من أجل بناء مستقبل ينتصر فيه الحب على الكراهية، والتسامح على الانتقام، والانفتاح على التعصب، والمعرفة على الجهل.
وما بين جامعة العرب، والمجلس العالمي للتسامح، التأم نفرٌ كبير من دول العالم العربي، ممثلين عن وزارات الثقافة والإعلام والأوقاف ومؤسسات أخرى، عطفا على رمزين من رموز المسيحية المشرقية، البابا تواضروس الثاني، بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والكاردينال ماربشارة بطرس الراعي، بطريرك الموارنة الكاثوليك.
مثير أمر هذا الحدث، حيث يأتي في وقت تكاد فيه نيران الكراهية، ومشاعر الخصام، أن تزج بالبشرية في أتون الجحيم النووي، غير أن العالم العربي يبعث رسالة للبشرية كافة، مفادها أن الحروب لا تفيد، وأن السلام هو الأبقى والأجدى.
هدف المؤتمر تركَّز حول إلقاء الضوء على جهود المؤسسات الوطنية والمنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، في مكافحة الكراهية والتعصب، ونشر ثقافة التسامح، وتحليل الواقع التشريعي لقوانين مكافحة الكراهية، وبحث رؤى تطويرها ورصد المعوقات والتحديات التي تواجه مجابهة التعصب ورفض الآخر، عطفا على استشراف رؤية مستقبلية لنشر ثقافة التسامح وترسيخ مبادئه لاستدامة السلام والتنمية في الوطن العربي.
يعنُّ لنا أن نتساءل ونحن في القلب من هذا الحديث: "هل مفهوم التسامح مفهوم تخاذلي انهزامي، كما يراه البعض؟
الجواب: بالطبع لا، فالتسامح عملية إيجابية هدفها تعديل موقف الإساءة أو إعادة تصحيحه بما يعود بالخير على كل من المُساء إليه، والمُسيء، أو على الأقل إعفاء المسيء من تهديد أو عقاب المُساء إليه.
والتسامح لا يعني خرق المعايير، أو القواعد، ناهيك بالقوانين، وإنما ينصبُّ بصورة مباشرة على التخلي عن الثأر والرغبة في الانتقام من المسيء، سواء بصورة مادية صريحة أو بصورة رمزية.
يبدو الهدف الأنفع والأرفع لهذا المؤتمر، كما جاء في كلمة معالي الدكتور أحمد الجروان، رئيس المجلس العالمي للتسامح والسلام، هو وضع آلية عمل عربي مشترك، وخلق أرضية للوقوف عليها، للوصول إلى رؤية متكاملة لنشر قيم التسامح والسلام في الوطن العربي.
رؤية الدكتور "الجروان" تنبع من إدراك عميق، عقلاني ووجداني، لا سيما بعد أن ترك العقد الماضي جروحا ثخينة في الجسد العربي، بعضها ومن أسف شديد لا يزال مفتوحا، ما يوجب التفكير بعزم والعمل بحزم من أجل معالجة الوضع القائم على هذا النحو من الألم.
رؤية دولة الإمارات في هذا الإطار، تعكس إرادة حقيقية في تغيير المياه الراكدة في عالمنا العربي، وتذهب إلى أنه لا يكفي فقط الحديث عن نشر السلام والتسامح، بل العمل الجاد الفعال لخلق عالم جديد.
مؤتمر الجامعة والمجلس دربٌ من دروب بناء الجسور، التي تُعبر، لا تُعرف فقط، وبهدف أجمله السيد "أبو الغيط" في قوله: "إن الانفتاح على الآخر لفهم ثقافته، وإقامة الجسور معه، وإعلاء قيم التسامح وقبول الاختلاف، عناصر لا غنى عنها لبناء مجتمعات إنسانية ناجحة، قادرة على الإبداع والابتكار، وقائمة على العيش المشترك بين أبنائها على أساس من المواطنة وحدها.
العالم يحتاج إلى السلام، هذا ما أكده البابا تواضروس الثاني في كلمته، وفيما العالم المسيحي الأرثوذكسي في روسيا وأوكرانيا يتناحر ويتقاتل، تعلو من شرقنا الفنان صرخة تقطع بأن التسامح ضرورة وليس اختيارا، وأن وصية السيد المسيح هي أن "أحبوا بعضكم"، ومن هنا يبقى التسامح طريقا لكسر سلسال الدم والشر، بالإضافة إلى كونه علامة قوة ودليلا على ضبط النفس.
ثم ماذا بعد؟
بحسب الدكتور "الجروان" فإنه وقت نشر هذه الدعوة السامية في أوساط النخب المثقفة، وعدم الركون إلى الحكومات فحسب لتغيير الأوضاع وتبديل الطباع.
أحلى الكلام: طوبى لصانعي السلام!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة