إتمام "بريكست" بالنسبة للمملكة المتحدة يستوجب إلغاء القوانين الأوروبية السارية بعد 31 ديسمبر 2020.
ولفعل هذا التحول من القوانين الأوروبية للبريطانية كانت حكومة "تراس" قدّمت إلى مجلس العموم مشروع قانون يحمل عنوان "غروب الشمس"، يلزم المؤسسات الرسمية إبطال نحو 2500 قانون من قوانين الاتحاد الأوروبي مع نهاية 2023.
وها هي "تراس"، التي وعدت بتسريع عملية "برطنة" القوانين الأوروبية عندما ترشحت لزعامة حزب المحافظين، لم تصمد في منصبها أكثر من أسابيع.. وربما يؤجل رحيلُها عن المنصب بالاستقالة المفاجئة ولادةَ مشروع قانون "غروب الشمس" بضعة أشهر، ولكن المهم أن يدرك خلَفُها خطورة الاستعجال في تمرير مثل هذه التشريعات.
و"بَرطنة" هذا الرقم الكبير من القوانين خلال عام واحد مهمة شبه مستحيلة. صحيح أن "غروب الشمس" يمنح بعض القوانين هامشا زمنيا يمتد حتى عام 2026 لإنجاز استبدالها.. ولكنه يشترط إبطال غالبية القوانين الأوروبية مع نهاية العام المقبل، سواء عثرت الوزارات ومؤسسات الدولة على بديل لها، أم تعثرت في مهمتها.
القوانين الأوروبية رافقت سكان المملكة المتحدة في حياتهم وعملهم واقتصادهم وتجارتهم لعقود طويلة.. كما عملت في ظلها المحاكم وشركات المحاماة في المملكة المتحدة لأكثر من أربعين عاما متتالية.. لذا يصف مشرّعون بريطانيون عام 2024 بـ"العام صفر" بالنسبة للحقوق المستمدة من قانون الاتحاد الأوروبي.
مشروع قانون "غروب الشمس" قُدّم لمجلس العموم في 22 سبتمبر الماضي ولم يحسم أمرُه بعد، ولكن الخشية من تمريره تفجّرت منذ اللحظة الأولى.. فالمشكلة ليست في الاستبدال بحد ذاته، وإنما في تسريع تنفيذه.. خاصة في ظل ظروف دولية ومحلية غير مستقرة، وأولويات مختلفة للبريطانيين مع الغلاء وأزمة الطاقة.
المهلة القصيرة لإبطال القوانين الأوروبية واستبدال المحلية بها، قد تدفع بالوزارات إلى الاجتهاد وإطلاق تشريعات أقل كفاءة وتنافسية مقارنة بالدول المتقدمة.. وما "يزيد الطين بِلّة" أن الرحلة القصيرة لـ"برطنة" القوانين الأوروبية تترافق مع متغيرات دولية كبرى بدّلت أولويات الحكومة في عدة قطاعات وأصعدة.
ثمة خشية نقابية من أن تؤدي "برطنة" اللوائح الأوروبية إلى تقويض حقوق العمال ومعايير بيئة العمل.. فالحكومة الاسكتلندية مثلا تقول في رسالة رسمية وجهتها إلى لندن: "الوقت الضيق أمام هذه النقلة القانونية الكبيرة في المملكة المتحدة، يتيح لحكومة المحافظين فرصة إضعاف حقوق العمال دون رقابة برلمانية كاملة".
لا تنتهي تداعيات الاستعجال هنا، فالقضاء البريطاني قد يتعثر في حسم القضايا المستندة إلى القوانين الأوروبية والمستمرة بعد عام 2023.. سواء فشلت الوزارات في إيجاد قوانين بديلة يلجأ إليها القضاة والمحامون لتسوية النزاعات، أو جاءت بقوانين مختلفة في معاييرها أو أقل تنافسية من القوانين السارية حاليا.
ولا شك أن الجانب الحقوقي يشكل هاجسا كبيرا في عملية التحول من القوانين الأوروبية إلى البريطانية.. ولكنه ليس مكمنَ القلق الوحيد.. فهذا التحول "السريع" يؤثر في تنافسية المملكة المتحدة عالميا في قطاعات الطاقة والأمن والبيئة والتجارة وغيرها.. وكلما تقلصت التنافُسية تراجعت فرص النمو والاستثمار والتنمية.
في الزراعة والبيئة فقط، هناك 570 قانونا يتوجب تغييرها.. وبلغة الأرقام يحتاج المشرعون المعنيون إلى "برطنة" قانون واحد في القطاعين كل يوم ودون توقف، على مدار عام كامل.. كما أن الجمعيات المختصة تخشى أن تحمل التشريعات المحلية آثارًا سلبية في إنجازات تحققت بالقطاعين خلال العقود الماضية.
المشكلة بالنسبة لمنظمات البيئة أن حزب المحافظين الحاكم غيّر من خطط الطاقة البريطانية بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، ولم يعد يمانع في العودة إلى الوقود الأحفوري.. ناهيك بأن 38 مجلسا محليا "بلدية" يطالبون بتوسيع رقعة الاستثمار وفتح مساحات خضراء أمام التجارة والإسكان، وهذا أيضا لن يأتي عبر قوانين تُراعي معايير الاستدامة.
اقتصاديا أيضا، تزيد عملية "برطنة" القوانين تعقيدَ العلاقات التجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وبحسب هيئة غرف التجارة، سترفع هذه العملية من كُلفة الإنتاج على الشركات البريطانية الصغيرة.. أما هيئة الخدمات المالية فتقول إن إلغاء التشريعات الأوروبية بسرعة يهدد تنافسية لندن في التجارة الدولية.
عند "برطنة" القوانين، تبدأ المقارنة بين زمنين.. الأول هو العضوية الأوروبية وما حملته من ازدهار اقتصادي وحقوقي وتجاري وبيئي للمملكة المتحدة.. والثاني هو "الاستقلال" أوروبيا، وما جرّه من مخاوف على جميع الأصعدة.. فلم يعد هناك يقين بريطاني في مقومات المملكة المتحدة، وحتى وِحدتها نفسها باتت على المحك.
الأصوات المتشائمة إزاء الزمن الثاني بدأت ترتفع في الصحف ووسائل الإعلام المحلية.. وحتى من قبل كتاب وإعلاميين ومنظرين روّجوا للخروج قبل أعوام، ودعموا بأعمالهم مشروع الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.. والخوف من القادم هو كلمة السر في كل ما يُتداول شعبيا وإعلاميا حول مستقبل المملكة المتحدة.
ما تعيشه البلاد اليوم من أزمات سياسية تتوارثها حكومات حزب المحافظين منذ عام 2016، يعزز الإحساس بالخوف من كل خطوة تمضي بالبلاد نحو "الاستقلال" عن الاتحاد الأوروبي، وإغلاق كل الأبواب نحو عودة محتملة في المستقبل.. أو على الأقل البقاء ضمن دائرة العَلاقات الجيدة مع التكتل في مختلف قطاعات الحياة.
وبشكل عام يحتاج رئيس الحكومة المقبل إلى أن يكون أكثر تعقُّلا في وعوده.. وأهم درس يجب أن يتعلمه من سلَفه -تراس- هو أن التسرع في القرارات لا يثمر عندما يتعلق الأمر بقفزات كبيرة ونوعية في حياة واقتصاد الدول.. أما الدرس الثاني فهو أن الوعود الانتخابية تتحول إلى "مشانق" إنْ لم تُنفذ.. وإنْ نُفذت خطأ قد لا يكفي الاعتذار لإنقاذ أصحابها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة