بعد هدوء شمال سوريا، بدأت "هيئة تحرير الشام"/"جبهة النصرة" -مصنفة إرهابية- فجأة تحرُّكها للسيطرة على مناطق في ريف حلب.
ويعرف الجميع أن ما يسمى "هيئة تحرير الشام" كانت على ولاء لتنظيم "القاعدة"، وكبرت وسط صمت القوى المعنية بالأزمة السورية، حتى بدت قوة على الأرض في محافظة إدلب على الحدود السورية-التركية.
وعليه، لا يمكن النظر إلى توقيت تحرك "النصرة" على أنه مجرد تحرك منفرد منها، بعيدا عن جملة معطيات جديدة يتم إعدادها للأزمة السورية، إذ إن تحركها جاء في ظل الاستدارة التركية نحو دمشق، وكذلك في ظل مساعي ترتيب الوضع في الشمال السوري، تمهيدًا للمرحلة المقبلة، وهي مرحلة من أهم ملامحها تفكيك "الدويلات"، التي نشأت خلال السنوات الماضية، وإعادة الوصل بينها وبين المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية.
ولعل من أولى مؤشرات هذا المُعطى، إعادة فتح عدد من المعابر بين هذه المناطق، وكذلك المساعي المكثفة من دول الجوار السوري لإعادة اللاجئين السوريين في هذه الدول إلى بلادهم عبر تفاهمات واتفاقات مع الحكومة السورية.
في الواقع، يبدو أن المُراد من توسيع "النصرة" سيطرتها على مناطق في شمال سوريا هو "تعويم" لها لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
الأول، جعلها على تماس مباشر مع مناطق قوات سوريا الديمقراطية، "قسد"، ما يعني تهيئة الجبهة لصدام عسكري مع "قسد" مستقبلا.
الثاني، توجيه ضربة استباقية للمسعى الأمريكي الداعم للفصائل، التي أظهرت رفضا للاستدارة التركية نحو دمشق، ما دفع بتركيا إلى محاولة استيعاب موقف هذه الفصائل عبر تكتيكات سياسية وأمنية لدفعها إلى الانخراط في استداراتها أو الوقوع تحت سطوة "النصرة".
الثالث، أن تركيا تدرك جيدًا أن "النصرة" ستكون ورقة تفاوضية قوية لها مستقبلا فيما يتعلق بالملف السوري ككل، بعد التغييرات التي جرت فيه خلال العقد الماضي، ولعل ثمن تحقيق كل ذلك في المستقبل سيكون "جبهة النصرة" بوصفها منظمة مصنفة على قوائم الإهارب.
تغيير الخرائط العسكرية والسياسية في الشمال السوري قد يستغرق وقتا يطول لشهور، فهو يجري وفق تفاهمات دقيقة بين أطراف مختلفة، لكن تحقيق الأهداف النهائية لهذا التغيير يبدو مرهونا بتحديات كثيرة، منها ما يتعلق بموقف الجانب الأمريكي، المتحكم بشرقي الفرات من هذا المسعى، ومنها ما يتعلق بمآلات معركة "النصرة" الجديدة في ريف حلب، خاصة أن قضية التخلص من "النصرة" مستقبلا -إذا جرت التطورات وفق السيناريو السابق- ليست سهلة كما يتوقع البعض، في ظل امتلاكها أسلحة هائلة وأعدادًا كبيرة من المقاتلين.
الثابت في ما سبق أن إعادة توزيع الخرائط في الشمال السوري عبر أدوات عسكرية على الأرض ستشكل فصلا جديدا من الأزمة السورية، ما دام كل ذلك يجري دون رؤية سياسية واضحة، وتفاهمات بين الأطراف المعنية بالأزمة لحلها سياسيا وسلميا، بعد أن خلفت دمارا واسعا في نفوس السوريين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة