تدخل الأزمة الغربية الروسية منعطفا جديدا وسط تطورات مهمة ومفصلية إثر تصاعد المواجهات وتصميم روسيا على تحقيق إنجازات مباشرة على الأرض.
يأتي التصميم الروسي قبل الدخول في مساحات من التوافقات والترتيبات الأمنية والاستراتيجية، على الأقل من جانب واحد، حال عدم تحقق أي تقدم على مسار التفاوض مع أوكرانيا، والذي تم تجميده حاليا.
ويبدو أن التوصل إلى نقطة توازن مهمة من بناء الثقة لا يزال مفقودا، على الأقل بين الأطراف المعنية، في ظل ترقب الولايات المتحدة لما هو قادم من تطورات عسكرية يمكن البناء عليها.
ووفقا للاستراتيجية الأمريكية، التي أعلنها مؤخرا الرئيس بايدن، فإن التهديد الروسي باستخدام النووي وارد، رغم ما تردده روسيا من أن الوثيقة الخاصة بأساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي، والتي تمت الموافقة عليها بمرسوم الرئيس الروسي بوتين، تحدد بوضوح شروط تطبيقها، حيث "تحتفظ روسيا بحق استخدام الأسلحة النووية حال تلقيها معلومات موثقة حول إطلاق صواريخ باليستية لمهاجمة أراضيها أو حلفائها، أو استخدام الأسلحة النووية، أو أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل على أراضي روسيا وحلفائها.. كذلك العدوان على روسيا باستخدام أسلحة تقليدية، ما يجعل وجود الدولة في حد ذاته مهددًا".
ويرتبط ذلك التقييم الأمريكي بسياقات مهمة جرت مؤخرا، خاصة مع تولي سيرجي سوروفيكين، القائد الجديد للعملية الروسية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، مهامه، ورغبته في أن يثبت حضوره الكبير في مسرح العمليات، حيث بدأ تنفيذ أسلوبه، مع تكثيف الهجمات الصاروخية ضد أهداف مدنية في جميع أنحاء أوكرانيا.. وقد ضربت الصواريخ وسط مدينة كييف بكثافة لم تشهدها العاصمة الأوكرانية منذ أن حاولت القوات الروسية السيطرة عليها في وقت مبكر من الأزمة، كما وقعت انفجارات في غرب أوكرانيا، ودنيبرو وكريمنشوك في الوسط، وزابوريجيا في الجنوب، وخاركيف في الشرق.
وجاء ذلك إثر تعرض روسيا لانفجار أطول جسر في أوروبا، والذي شيدته روسيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم عام 2014.
وتؤكد التقييمات الاستراتيجية سعي الرئيس الروسي بوتين إلى إعادة رسم خطوطه الحمراء في أوكرانيا، وقد عكس ذلك تطورين:
الأول، انتقال روسيا إلى التعامل مع العملية العسكرية في أوكرانيا بصفتها "عملية ضد الإرهاب"، وباعتبارها مطلبا لقيادات المناطق الأربع التي ضمّتها روسيا من أوكرانيا.
التطور الثاني هو اتجاه القيادة الروسية إلى الاكتفاء بموجة الهجمات الكبيرة والممتدة، إذ حملت الهجمات رسالة بطبيعة الرد الروسي، الذي يمكن توقعه حال استمرت الهجمات الأوكرانية ضد أهداف روسية.
وسيفتح هذا التطور احتمالية تسليم أنظمة دفاع جوي لأوكرانيا بأسلحة مضادة للطائرات على وجه الخصوص.
والسؤال الآن: ماذا لو امتلك الجيش الأوكراني منظومات دفاع جوية قادرة على إسقاط الصواريخ الروسية؟ هل سيلجأ وقتها الرئيس بوتين إلى فتح جبهة عسكرية جديدة مثل بيلا روسيا، حيث يمكن لروسيا تطوير قدراتها باستخدام مكثف للنيران؟ أو الاتجاه لتوظيف قنابل من نوع آخر تملكها روسيا وقادرة على الاستخدام الفوري في مسرح العمليات.
يشار إلى أن روسيا جربت من قبل -ردًّا على التجربة الأمريكية لكبرى القنابل التي تزن 10 أطنان كاملة- القنبلة الروسية، والتي تعرف باسم "القنبلة النوعية الضخمة"، وهي الأكبر في الاستخدام النوعي بوصفها قنبلة تفريغية تعطي مفعولا تفجيريا بقوة 44 طنا من مادة "تي.إن.تي" دون إشعاعات.
ويمكن الإشارة أيضا إلى أن تصعيد الضربات بصورة كبيرة وفي العمق الأوكراني، كأنه استهداف مباشر لكييف، أو ضمن التحضير الاستباقي لعمليات عسكرية مستقبلية، وذلك بعد استعداد الجيش الروسي جيدا وتعديل مسارات تحركه في مسارح العمليات المتعددة بهدف شلّ كل المناطق الأوكرانية، خاصة طرق الإمدادات الآتية من الغرب عبر بولندا.
ومن ثم فإن التحول السياسي الغربي لن يركز فقط على خطط إمداد أوكرانيا بالسلاح، بل ربما يمتد إلى إجراءات ذات دلالات سياسية رمزية.
وتتابع روسيا تزويد الولايات المتحدة لأوكرانيا بنظام صاروخ المدفعية عالي الحركة، المعروف باسم "هيمارس"، والذي يمكنه إطلاق صواريخ متعددة بدقة على أهداف عسكرية روسية على بُعد نحو 50 ميلاً.
وقد مكّنت الراجمة "هيمارس" أوكرانيا من تدمير مستودعات الذخيرة الروسية والإمدادات اللوجستية بعيدا عن الخطوط الأمامية.
كذلك فإن المدفعية بعيدة المدى الأخرى، التي قدمها الناتو، مثل مدافع الهاوتزر، القادرة على إطلاق قذائف دقيقة التوجيه، أُضيفت أيضا إلى التحدي الذي تواجهه روسيا.
المشهد الراهن للعمليات العسكرية لا يوجد به هدف عسكري واضح، ولكن هناك ضرب للبنية الأساسية وصولا إلى مناطق مدنية قريبة من كييف وسط رهانات على إمكانية التوصل إلى تسوية بين الطرفين، سواء عن طريق تدخل أطراف دولية، كالهند أو الصين، أو عن طريق أجهزة لحل النزاعات في إطار مجلس الأمن، ولكن من الواضح أننا أمام سيناريو مفتوح.
في المجمل، فإن روسيا ستظل تناور في مساحات كبيرة لتأمين مصالحها الكبرى، ليس فقط في أوكرانيا، وإنما في مناطق التماس والنفوذ التقليدية، وكذلك في مناطق الفضاء الروسي الكبير، وفقا للتعريف السياسي والجيوستراتيجي الروسي، والذي سيتعامل مع مبادئ الاستراتيجية الأمريكية المعلنة مؤخرا بمزيد من الإجراءات الاحترازية والتدابير الاستراتيجية المحكمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة